مقالات

الصراع من أجل البقاء في العملية السياسية

بقلم:سمير عادل

الهزيمة السياسية التي مني بها التيار الصدري تفتح صفحة جديدة من المشهد السياسي. وقد فشلت صولة مقتدى الصدر العسكرية في إيصال “ثورته العاشورائية السلمية” إلى تحقيق أهدافها، لذا نراه، يشن هجوما لاذعا على ثورته وينتقدها عبر مؤتمره الصحافي، ويشكر القوات الأمنية والحشد الشعبي على ضبط النفس، وفي نفس السياق يطلب من جماعته الانسحاب من المنطقة الخضراء، وكأنّ شيئا لم يكن.إن الصدر وتياره السياسي يتخبطان في مواقفهما كما قلنا في مناسبات سابقة، ويعبّر منحنى تصاعد مطالبه تارة ونزولها تارة أخرى عن ذلك التخبط وانعدام الأفق السياسي، الذي بدأ بالإيعاز لنوابه في البرلمان بالاستقالة. وكان تعبيراً شاملاً عن مأزق كامل العملية السياسية، ووصول مشروعه المتمثل بـ”حكومة الأغلبية” إلى نفق مسدود.إنَّ حركة الصدر قد انتهت ونفدت كل ذخيرتها السياسية، حتى قبل الضوء الأخضر الذي أعطاه الصدر إلى ميليشياته (سرايا السلام) يوم 29 أغسطس الساعة الحادية ظهرا بالنزول إلى الشارع. وكان غلق حسابه واعتزاله السياسي ــ الذي عودنا عليه الصدر عند كل مناسبة في توريط سياسي لجماعته ــ هو الشفرة المتفقة عليها لنزول تلك القوات، لذا نشدد القول بأنَّ تلك الحركة انتهت عندما فشلت في تنظيم اعتصام مفتوح أمام مجلس القضاء الأعلى، لممارسة الضغط من أجل انتزاع قرار بحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة.ولعب العامل الإقليمي دورا حاسما بالتمهيد لإجهاض حركة الصدر للخروج من الزاوية التي حصرت نفسها فيها، ولم يسعف مشروع مقتدى الصدر. إذ تغير العامل الإقليمي ولعب دورا في إفشال حركة الصدر لصالح تحالف ميليشيات المالكي – الفياض – الخزعلي – العامري المسمى بالإطار التنسيقي، حيث كان الفياض رئيس ميليشيات الحشد الشعبي وعدد من قادة الميليشيات في زيارة إلى إيران عشية تظاهرات الصدر أمام مجلس القضاء الأعلى، وتلقوا الأمر من أجل الاستعداد للتصدي لجماعة الصدر وإنهاء احتجاجاته التي تزامنت عند عودتهم بالسعي لإعادة سيناريو مجلس النواب ولكن هذه المرة باقتحام مجلس القضاء.وسرعان ما جاء رد الفياض بنشر ميليشياته أي الحشد الشعبي وتحت عنوان عريض وخادع بالدفاع عن القضاء ومؤسسات الدولة لفض الاعتصام بالقوة، وهذا ما دفع مصطفى الكاظمي رئيس الحكومة إلى قطع زيارته لحضور اجتماع القاهرة والعودة سريعا إلى بغداد، والإعلان بأنَّ على القوات الأمنية عدم الانجرار إلى الصراعات السياسية.وفي نفس الإطار أعلن كاظم الحائري، المرجع الديني لمقتدى الصدر وجماعته، الاستقالة ودعا مقلديه إلى اتّباع المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي، لسحب البساط من تحت أقدام الصدر وفض أكبر عدد من أتباعه من حوله. والمعروف أن مقتدى الصدر يجمع بين الزعامة الدينية والزعامة السياسية.هذه العوامل دفعت الصدر إلى التحرك سريعا بتوجيه ضربة استباقية إلى إخوته التوائم في البيت الشيعي للحيلولة دون الانقضاض عليه.وبعبارة واحدة فإن إيران استردت زمام المبادرة في العراق خاصة بعد قرب الاتفاق النووي والتلويح بالخروج من عزلتها الدولية ورفع العقوبات عن مئات المليارات من الدولارات، إلى جانب السماح لها بتصدير النفط رغم العقوبات الأميركية عليها مستغلة أزمة الطاقة العالمية، والتي تتزامن مع نجاح سياسة روسيا وحربها في أوكرانيا، إذ تقف هي والصين خلف إيران.لقد كان نزول الصدر بميليشياته إلى بغداد وبقية المحافظات مسعى لخلط الأوراق وتفويت الفرصة على منافسيه عبر خلق فوضى أمنية وليس مهمّا حجم الضحايا الذين يسقطون وتعريض أمن المجتمع وسلامته إلى خطر محدق، وبعد ذلك الظهور بمظهر المنقذ للأمن والسلام للحفاظ على ماء وجهه. إلا أن كل ذلك لم يمنع من ظهور خليط من التوجس والقلق على سيماء الصدر وحركاته أثناء المؤتمر الصحافي الذي عقده، وكذلك تقديم الاعتذار للشعب العراقي بسبب سقوط الضحايا بفعل ميليشياته التي بررها بوجود ميليشيات “وقحة”.أما أكثر الأحداث التي سجلت مشاهدات سياسية، بوصفها كوميديا سوداوية، هي موقف رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، الذي أعلن عن تشكيل لجنة تحقيق عن أحداث المنطقة الخضراء. فهو يعيد إلى الذاكرة حادثة اغتيال قاسم سليماني رئيس فيلق القدس، فقد أعلن في حينها المسؤولون الإيرانيون عن تشكيل لجنة تحقيق للبحث عن المتورطين في اغتيال سليماني، في حين أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب ظهر أمام العالم ليعترف بأنَّه هو من أعطى الأوامر للقوات الأميركية في العراق لاغتيال سليماني. بيد أن الكاظمي مثله مثل المسؤولين الإيرانيين، يبدو أنه تعلم منهم الدرس والتجربة والخبرة، لا يريد توجيه أصابع الاتهام إلى الصدر وميليشياته، ليطمس رأسه بالرمال مثل النعامة كي لا يرى العدو الحقيقي. فهو ينسى أنه القائد العام للقوات المسلحة وبيده الحل والربط، لكن بحنكته وحكمته اختار أن يحتل مكانا في لجنة “ذي فويس” كي يقيم أداء الميليشيات والقوات الأمنية، ويثمن ضبط النفس والوقوف في مسافة واحدة من المتنافسين، إنَّه حقا رئيس وزراء مثير للشفقة.وأخيرا نقول إن الصدر توهم بأنَّه يستطيع جر من فجّرَ شرارة انتفاضة أكتوبر إلى حركته ــ وهم عمال العقود والأجور، وعمال الحفر في القطاع النفطي في البصرة، وعمال النفط في الناصرية، والخريجون من المهن الصحية والطب البيطري، والمحاضرون المجانيون الذين يقدر عددهم بـ200 ألف شخص، وعمال وموظفو تنمية الأقاليم، وملايين العاطلين عن العمل، والنساء التواقات إلى التخلص من براثن الإسلام السياسي ــ لذا فقد فشلت “ثورته العاشورائية” بامتياز، وباعتراف منه، وبرهن أنَّه غير قادر على خداع الجماهير تحت شعاراته الشعبوية والتغني باسم الوطن والعراق، وهو أول من سرقه، وسلط ميليشياته على رقاب جماهيره.لقد أثبت يوم التاسع والعشرين من أغسطس، أن الصدر لن يتورع عن الدوس على أمن المجتمع وسلامته إذا تعرض إلى أيّ تهديد، ومستعد للتنصل من مسؤوليته في نفس الوقت ورمي اللوم على قادته وأتباعه، ولو كان يعي جيدا بأن صولة ميليشياته ستحسم أمر السلطة السياسية للذهاب أبعد من ذلك، لكنه تدارك نفسه، ليتراجع ويعلن عن هزيمته لإنقاذ ما يمكن إنقاذه للبقاء في العملية السياسية. أما الذين خدعوا للمرة الثانية على التوالي بالتيار الصدري وزعيمه، فلا عزاء للحمقى والمغفلين.إن كل التضليل الإعلامي والدعائي، بأن الصدر عن طريق جماهيره “المليونية” وفوراته غير السلمية لتغيير الوضع السياسي، تَكَسّرَ في اللحظة الأخيرة عندما ضاقت به الأمور، وبرهن أن أمثال التيار الصدري وتحالف المالكي – الفياض – الخزعلي – العامري وغيرهم، دون ميليشياتهم لن يستطيعوا البقاء ليوم واحد في المشهد السياسي. وهذا الدرس يجب أن تتعلمه جماهير العراق إذا أرادت الحرية والأمن والسلام والرفاه، فليس أمامها إلا طريق واحد، ليس طريق الانتخابات المبكرة وحل البرلمان، وليس طريق صناديق الاقتراع التي تفتحها الميليشيات وهي من تغلقها، إنما هو التفكير برمي الإسلام السياسي وميليشياته وأحزابه خارج التاريخ الإنساني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى