مقالات

‏كنّا نفطر تحت نجمة واحدة

رباح ال جعفر

أيام زمان كان رمضان يأتينا في عزّ القيظ. وكان الحر يلفح في وجوهنا ونحن نجد في هذا الحر متعة عظمى. وكانت فرحتنا برمضان في آب اللهّاب أعظم ألف مرة من فرحتنا ببرد الكوانين. حين كنّا نتقافز إلى النهر ونتمرغل على الرمل ونملأ الأجراف بالضجيج والقهقهات. ولم تكن لدينا من وسائل التكيّيف سوى المراوح البسيطة، أو مهافيف الخوص، والناس يبدون في سعادة واضحة. ‏كان دانتي يقول: «ليس من حزن أعظم من أن تتذكر السعادة في زمن البؤس». وكلما أطلّ شهر رمضان رحنا نستعيد في الذاكرة تلك الليالي الساهرة، والأنوار الباهرة، والعطور الساحرة، والموائد العامرة، والأسواق المزدحمة ببائعي جميع أنواع العصائر: المشمش، والزبيب، والليمون، وقمر الدين، وجوز الهند، والبرتقال. والبيوت المفتوحة، والمجالس الزاخرة في كل مكان، والقناديل المضاءة، والمآذن تصدح بألحان السماء من التلاوات والتكبيرات والتواشيح، وتحلّق بالقلوب في شوق إلى السموات العلا. ‏هذا ترتيل للحافظ خليل من مقام الصبا وهذا من تسجيلات الحاج محمود عبد الوهاب. والناس يصعدون على السطوح يراقبون الهلال، ويتدافعون على المسجد في مواقيت الصلاة، والقلوب خاشعة، والأطفال يحملون الفوانيس مبتهجين في الشوارع، والشباب يُقبلون على قراءة كتب التفسير والأحاديث النبوية وقصص السيرة، ومنهم يختمون المصحف الشريف مرة ومرتين وثلاثاً في الشهر الكريم. أمّا مدفع الإفطار فكنّا نسمعه من الإذاعة فلم يكن في بيوتنا تلفزيون.‏وكان الناس في القرى والأرياف لا يعرفون السهر إلا في شهر رمضان. فهم ينامون مبكراً مع النخل إذا جاء المساء ويستيقظون قبل صياح الديك. ثم انقلبت الدنيا رأساً على عقب، فأصبحوا يسهرون الليالي حتى مطلع الفجر في جميع الشهور أكثر من أهل المدن.‏واختفى من حياتنا إلا من بعض الأحياء الشعبية القديمة ذلك «المسحراتي» بلغة أهل الشام والمصريين، و»أبو الطبل» بلغة العراقيين. حين كان يتحزم بالطبل أمامه ويجوب الشوارع يوقظ النائمين إلى السحور. الطريف أن أكثر هؤلاء «المسحراتية» أو «أهل الطبل» كانوا من العميان!. ‏أذكر في بلدتنا حديثة كان هناك اثنان من العميان يضربان الطبل في رمضان. كان الأول في «الحويجة» والثاني في «الشامية». وكان الإثنان من الظرفاء يحفظان كل حفرة عن ظهر قلب. ومن المفارقات أن ملحن ومغنّي أشهر أغنية رمضانية تتحدث عن المسحراتي «اصح يا نايم.. وحّد الدايم» سيد مكاوي كان أعمى هو الآخر.‏هذا الحنين بالتذكّر يوجع القلب ويأخذنا إلى رمضان آخر لا علاقة له برمضان أيام زمان. تكاد معالمه تختفي. كلما اشتدت القباحة في هذا الزمن رحنا نتذكر الأيام الخالية في ذلك الزمن. هل كان زمناً جميلاً لكي نبكي على جدار ليلى؟ كانت الدنيا كبيرة، والبيوت شاسعة، تفتح أبوابها للغريب والقريب، والقلوب واسعة، والأشجار وارفة لها ظلال حالمة، والناس تعيش في فرح وبهجة. ‏لا تسألني كيف كنّا نجتمع تحت نجمة واحدة، فأصبح كل واحد منّا ينام تحت نجمة؟. ويمكنك أن تتخيّل كيف كنّا نصوم تحت هلال واحد؟ وكيف كنّا نفطر على «سُفرةٍ» واحدة؟ وكيف كانت الدنيا تنتهي عند أطراف أصابعنا؟ فما الذي جرى للدنيا؟ وماذا جرى لنا؟ وكيف جرى وكان؟ وأين رمضان زمان؟!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى