مقالات

أخلاق الأغلبية

أخلاق الأغلبية – منقذ داغرفي

مقال سابق أنتقدت الفهم المشوه للديموقراطية القائم على التأكيد على حكم الأغلبية،وأغفال الشرط الآخر لها وهو “حماية الأقلية”.

اليوم سأوضح الأبعاد الأخلاقية التي قامت عليها معادلة الديموقراطية بجناحيها:حكم الأغلبية وحماية الأقلية والتي تجعل منها أفضل منظومة حكم أخترعها الأنسان حتى يومنا هذا على الأقل،وبغض النظر عن الأخطاء الكثيرة والكبيرة التي وقعت فيها التطبيقات المختلفة لنظام الحكم هذا. خلال مسير حياته الطويلة منذ بدء الخليقة سار التطور الأجتماعي البشري بأتجاهين متلازمين هما:

من الفردية للجماعية،ومن الصيد والترحل الى الأستقرار والحضارة. لقد أدرك الأنسان بعقله وأرادته أن العيش بمفرده أو أسرته بعيداً عن الآخرين سيفقده كثير من المزايا المادية والنفسية والأجتماعية التي يؤمنها له أجتماعه مع الآخرين. لقد لاحظ أبن خلدون أن العمران(الأجتماع) البشري يؤمن للأنسان مضاعفة قدراته وأمكاناته مما يجلب له النفع الكبير ويؤمن له الأنتصار في مواجهته مع عوامل البيئة المحيطة به. لذا فأن القول بأن الأجتماع البشري ناجم فقط عن كون الأنسان حيوان أجتماعي بطبعه (مقولة أرسطو) هو قول منقوص، لأن الأنسان هو أيضاً كائن عاقل ومفكر يعرف كيف يضاعف قدراته وبالتالي منفعته من هذا الأجتماع بالآخرين.

لكن هذا الأجتماع البشري أدى بأضطراد الى تزايد المستوطنات البشرية عدداً مما خلق حاجات أضافية لا بد من تلبيتها كي يمكن لهذا الأجتماع أن يُنتج ويُثمر خيراً للبشر. فكانت الأعراف والمعايير والتقاليد الأجتماعية جزءاً مهماً من ضرورات العمران البشري.أن الحضارة civilization هي في شطرها الأهم أقامة النظام والعرف والقانون كي يعرف كل ذي حق حقه ويُمنع ذوي الطول والقوة من الأعتداء على حقوق الآخرين.

فالقانون في أساسه وُضع ليحمي الضعفاء وليس لينصف الأقوياء،لأن القوي ليس بحاجة لمن ينصفه.

لقد وضع القانون ليحقق الساق الثانية للحرية كما وصفها مونتسكيو وفولتير وروسو وسواهم من التنويريين الا وهو المساواة. فالأنسان حين قرر بأرادته الأنضمام لبني جنسه لأنشاء مجتمعات متحضرة لم يكن يفتقد للحرية،بل أن حريته آنذاك كانت تفوق حريته بعد الأجتماع والتي أضطر للتنازل عن جزء منها لتحقيق المساواة مع الآخرين.

أن من يعتقد أن حكم (الأغلبية) سيصنع حضارة فهو واهم لأنه في الواقع سيهدم تلك الحضارة.فالأغلبية التي تعني الأقوى بمفهوم التغالب الذي يستند له البعض في فهمهم للديموقراطيةستؤدي لفرض الأرادة على (الأقلية) طبقاً لهذا المفهوم .عند ذاك ستفكر الأقلية بالهدم أو الفرار فلا يعود للحضارة معنى.

لذا قال سقراط لأرستيبوس ” أذا كنت تظن أن من الأصوب أن تعيش محكوماً لا حاكماً فأني أظن أنك سترى سريعاً كيف يتعلم الأقوياء معاملة الضعفاء معاملة العبيد”.

فما الذي يجعل الناس ترغب أن يعيشوا كالعبيد في بلد يكون فيه الحكم للأقوى،أو الأكثر عدداً؟! تشير التقديرات أن هناك 5-10 مليون عراقي غادروا العراق وأن هناك 10-15 مليون آخرين (جلهم ممن يشعرون بالتهميش المادي أو الأجتماعي) يودون مغادرة العراق فأي مجتمع هذا الذي تريده الأغلبية؟أن من يعتقد أن أغلبيته (التي ما زلت مصراُ أنه يفهمها بشكل مشوه ومغلوط كما بينت في المقال السابق) تتيح له بموجب مبادىء الديموقراطية سن القوانين التي تخدمه لوحده فهو لم يفهم الأساس الأخلاقي لقيام الدولة ولوظيفة التشريع. لقد خُلقت الدول(بسلطاتها الثلاث) بعد تطور وتنوع المجتمعات لكي تخدم الأنسان وليس ليخدمها الأنسان.

وكلما زادت القوانين المشّرّعة كلما دل ذلك على أن تلك هي دولة لصوص ومجرمين تحتاج لقوانين تحكمهم. أن الواجب الأساس للدولة الحديثة هو التنظيم من خلال التثقيف والتربية والتعليم،وليس التخويف والتقنين.

وكلما قل تدخل الدولة كلما كان المجتمع أكثر رقياً. أن علينا أن نعلّم أكثر مما نحرّم،وأن يكون واجب الدولة الرئيس هو التعليم لا التشريع،وبناء المدارس بدلاً من بناء القوانين. وعلى (الأغلبية) أن تفهم أنه لا قيمة لأمتلاك تذكرة رجال أعمال حينما تكون الطائرة عاطلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى