مقالات

“إعادة فرض نوع جديد من التقشف في العراق”

الكاتب : صالح الطائي

مع احتمال انخفاض أسعار البترول إلى أدنى مستوى لها خلال عقدين أو أكثر؛ بسبب تداعيات مرض كورونا، ومع انتشار فكرة احتمال إعادة فرض نوع جديد من التقشف في العراق، أو احتمال تقليل المرتبات الشهرية والأجور إلى النصف؛ تمتد الكثير من مساحات الوجع الغائر في أعماق النفوس؛ التي أكلت من قبل مرغمة “علف الحيوانات” وهي تشكر اللهّ أنها تجد ما تأكله ولو بشق الأنفس، ذلك الوجع المخزي المهين الموجع إلى حد القسوة المفرطة؛ الذي ألجأ بعض العراقيين الأكثر فقرا إلى بيع “أعراضهم” من أجل توفير لقمة لا يشترطون بها أن تكون شريفة من أجل إطعام أبنائهم، في وقت كانت قصور الحكام والمترفين تمتد على عرض مساحة العراق، وتزداد ارتفاعا وتزيينا وتأثيثا، وكروشهم تزداد انتفاخا، ودمويتهم تزداد شرا.

وهذا هو قدر العراق، منذ أن خلقه الله سبحانه وتعالى، ومنذ أن رفع راية العِلم ليعلم الإنسانية معناها، ويرسم لها سبل مبتغاها؛ وهو قصابٌ كريمٌ يُطعم الناس الأطايب مما فاء به الله عليه، ويمن على جوعى العالم وأكداس المساكين والمعوزين، ولا ينسى بكرمه حتى الأعداء الحقيقيين والمحتملين، وجميع الأنقياء والخبثاء، والأتقياء والأشقياء، والصالحين والفاسدين والأبرياء والمجرمين والشرفاء والسُراق، والعقلاء والمجانين، فخيره كثير، وكرمه بلا حدود، والجود ـ مثلما قال الأجداد ـ من الموجود.

ومنذ أن خلق الله سبحانه العراق وكل كلاب الدنيا تمر به، لتعيث بأرضه فسادا وتنعم بثرواته، أو لتسرق من خيراته، أو لتحصل على مجرد عظمة أو قطعة لحم، تسد بها أودها، أو تطعم بها جراءها، ومن هنا تحديدا، جاء المثل الشعبي القائل: “درب الجلب عالكصاب” وبالفصحى: “طريق الكلب يمر حيث دكان القصاب”، وهذا يترجم الرقم الحقيقي لعدد المرات التي خضع العراق فيها لسيطرة القوى الخارجية الأجنبية على اختلاف جنسياتها وأماكن وجودها القريبة إلى حد الالتصاق والبعيدة إلى حد ليِّ الأعناق.

مصيبة العراق أنه عبر تاريخه كان مضاما يشكو الضيم وجور ورعونة وغباء الحكام، واهتمامهم بأنفسهم وبمرتباتهم وبقصورهم وخدمهم وبالمحيطين بهم، وتركهم كل طبقات الشعب الأخرى تبحث عن لقمة شريفة في زمن أنحسر فيه مد الشرف حتى بانت قيعان الخطيئة، ومعها بانت عورات النساء والصبيان الفتية،

الذين استرخصوا أنفسهم بسبب الجوع فوجدوا من يتاجر بأجسادهم ولحومهم ويحمل وزر وجعهم وذلهم.

والأشد نكاية أن حكام العراق المعاصرون منهم والأقدمون، سواء كانوا متفردين تسلطيين دكتاتوريين، جاءوا على ظهر قطار انكلوأمريكي مر بالعراق وخرج، أو مجتمعين منتخبين ديمقراطيين علمانيين ومتدينين، جاءوا على ظهر دبابة أمريكية وتسنموا الحكم عن طريق صناديق الرذيلة، وينتظرون ساعة طردهم، مثلما ينتظر الشعب ساعة الخلاص من فسادهم وسرقاتهم وتبعيتهم للأجنبي.

إن ما مر على العراق خلال الخمسين سنة المنصرمة قضى على كثير من بوادر الخير والطيبة والشرف والوطنية والنخوة في نفوس أهله، وما سيمر عليهم إذا ما حوربوا بأرزاقهم مرة أخرى، سيقضي على وشل ما بقي لديهم من منظومة الأخلاق والقيم، ويحولهم إلى قطعان افتراسية تأكل بعضها بعضا، فيخسر العالم شعبا وبقعة أرض كانت مهدا للحضارات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى