مقالات

الدولةُ في العراق صراعٌ بلا حكماء

بقلم/ د. حميد مسلم الطرفي

.في الدولة العراقية الأولى (١٩٢١-١٩٣٣ ) كان الملك فيصل الأول يقود مركباً صعب الانقياد ، فدولة فتية متعددة المذاهب والقوميات ، ومثابات دينية حاكمة ، وارث عثماني واسع ، ودولة احتلال لا تغيب عن مستعمراتها الشمس ، تغلبت بالقوة العسكرية ودخلت جحافلها بغداد ودفعت مئات القتلى، ونظام عالمي قائم على أساس القوة ونتائج الحرب الكونية . انقسم المجتمع السياسي في حينها إلى فريقين ، الأول يطالب القوات البريطانية بالرحيل ويعترض بقوة على اتفاقية ١٩٢٢م منطلقاً من ارثه الديني ورفضه وجود قوة اجنبية غازية في بلاده ، ومقاومة الاحتلال حق مشروع ، والثاني يطالب بمسايرة بريطانيا والاستفادة من بعض مزاياها والنظر بعقلانية الى ميزان القوة بين الطرفين . استمر هذا الصراع بين الفريقين ولكنه لم يتحول الى صراع عسكري ، بل أداره الملك فيصل بحنكة سياسية ومهارة عالية ، ففي الوقت الذي يبدي للبريطانيين شدة المعارضة لوجودهم ويذكرهم بثورة العشرين وهدفها الأول الذي كان الاستقلال ، وما دفعته بريطانيا من خسائر في تلك الثورة ، فإنه ينقل للجانب الآخر الآثار المترتبة على اخراج القوات البريطانية بالقوة ، وصعوبة تحقيق ذلك في نظام دولي قائم على أساس توزيع مغانم الدولة العثمانية على الحلفاء الذين انتصروا في الحرب العالمية الأولى (١٩١٤-١٩١٩) . لم تخل تلك الصراعات من سياسيين سيئي النية ليس لهم من هَمٍّ سوى مصالحهم الشخصية ومنافعهم الذاتية بعيداً عن هموم الوطن ومصالحه ومن الفريقين ، لكن وجود هؤلاء لم يمنع الملك من سماع حججهم والاستفادة من رصيدهم الشعبي لتعزيز ما يخدم العراق .اليوم يتكرر المشهد وهذه المرة مع القوات الأمريكية التي باتت اليوم عنوان الاختلاف الأكبر بين فريقين كل يدعم أحقيته بعشرات الحجج والبراهين على أن رأيه هو الأصوب .في العراق اليوم شحن فكري وسياسي وفي جزء منه عقدي بدأت آثاره تنعكس على الجانب الأمني والعسكري ، هذا الشحن باتجاهين ، الأول يصرح علناً بضرورة وجود القوات الأمريكية لأنها الوحيدة القادرة على حماية كافة المكونات في العراق من (تَغَوّل )الأكثرية على حساب الأقلية ، وأن هذه القوات ماكانت لتدخل العراق لولا رضا الأكثرية التي باتت اليوم ناقمة على تواجدها فما عدا مما بدا ، بالأمس صديق واليوم عدو ؟ وهذا الفريق بدأ يشن حملات اعلامية مضادة لمفاهيم المقاومة ، ومناهضة الاحتلال ، بحجة البحث عن الاستقرار والرفاهية والأمن والأمان للشعب العراقي الذي يستحق – بنظر هذا الفريق- أن يعيش حياته بعيداً عن (البطولات الفارغة) الخالية من توازن القوى أولاً ، خاصةً وأن هذه المقاومة توظف لصالح دول أخرى ثانياً ، في حين لا مصلحة فيها للشعب العراقي حسب قناعاتهم . هذا الاتجاه تغذيه ماكنة اعلامية ضخمة وأموال خليجية وتسوقه للعراقيين بأبهى حلة . أما الفريق الآخر فحجته أقوى وأبلغ فكرياً فهو يقول أن المقاومة حق كفلته كل قوانين الأرض ضد الاحتلال ، وأمريكا ادعت أنها دخلت العراق محررة لا فاتحة ، لكي تبني نظاماً ديمقراطياً قائماً على أساس ارادة الشعب واختياره ، وتنسحب ، ثم بدأت بالتخلي عن كل وعودها فتدخلت في شؤون العراق الداخلية ، ودعمت أناساً وحاربت آخرين ، وإذا كنا اتبعنا منهج المقاومة السلمية في مقاومتها في وقت ما ، فان ذلك لا يعني أننا أعطيناها صك التحكم بمقدرات العراق ، العراق وقع اتفاقية لسحب القوات الامريكية تماماً من اراضيه وتم تنفيذ ذلك في 31/12/2011 ، فلا يجوز ان تخرج هذه القوات من الباب لتعود من الشباك . ثم من قال أن الامن والاستقرار والحفاظ على المكونات ياتي حينما تكون القوات الامريكية والاجنبية على ارضنا ؟ تلك امنية في عقول المرضى ، افلا يرون كيف يذل ترامب حكام السعودية ويحلبهم ليل نهار بحجة حمايتهم ؟ ومتى نهض شعب في منطقتنا بجهود امريكا ؟ وكيف تسمح اسرائيل بذلك وهي الربيبة المدللة لامريكا في المنطقة ؟ وهل مطالبة شعب بسيادته واستقلاله التام جريمة ؟ وهل هناك من دليل أوضح على استهتار القوات الامريكية وعنجهيتها وغطرستها واستهانتها بالشعب العراقي من قيامها في كانون الثاني 2020 باغتيال الشهيد ابو مهدي المهندس وضيفه الشهيد سليماني في مطار بغداد واعلانها ذلك دون خوف أو وجل ، ؟ ثم اذا كانت السلطة المنتخبة قد طلبت باغلبية الأصوات خروج القوات الأجنبية من العراق فلماذا كل هذا اللف والدوران لتأخير عملية الانسحاب ؟ والأفضل لهذه القوات أن لا تعطي الذريعة للمقاومة والمقاومين فتريح وتستريح بانسحابها . والمقاومة لا تطالب بقطع العلاقات مع اي دولة ما عدا اسرائيل فمن حق امريكا ان تقيم علاقة مع العراق على اساس المصالح المتبادلة بين الشعبين .هذه صورة لمشهد الصراع في العراق بين الفريقين ، ما يميز مشهد اليوم هو غياب رمز وطني ، أو رأس إداري يوازن بين من يطالب بخروج القوات الأجنبية عامة والامريكية خاصة بأسرع وقت ممكن ، وبين اولئك الذين يخافون من عواقب المواجهة مع امريكا المتغطرسة من حسني النية . الرمز الذي يحظى بثقة الطرفين وحسن ظنهما فيه . الرمز الحكيم الوطني المخلص ، وبغياب هذا الرمز الشجاع وتمسك كل فريق برأيه فأن البلاد تسير إلى التصادم ، هذا التصادم إن وقع-لا سمح الله – فلا رابح فيه الا أعداء العراق وعلى رأسهم اسرائيل وحلفائها في المنطقة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى