مقالات

الدَّجلُ والخُرافةُ.. في زمن «كورونا»

الكاتب رشيد الخيون

يُعذر البشر في القرون الخوالي مِن اللّجوء إلى الخُرافة، وقبول الدَّجل، في مواجهة الأوبئة الفتاكة، التي تفتكُ بالنَّاس، حتى تضيق الأرض على موتاهم، فتترك الأبدان في العراء طعماً للجوارح مِن الطَّير، ولصفي الدِّين الحلي(ت752هج) ما يُعبر به: «ضاقت على القتلى الفَلاة بأسرِها/فجعلتَ أكبادَ النُّسور لحودا»(الديوان، مَلك الورى)، ولشحة التربة والأكفان يُصار إلى رميهم في الأنهار.
لهذا يختلق النَّاس ما يلوذون به مِن خرافة، وهم معذورون، مِن إيجاد سبب للوباء يتعلق بالغضب الإلهي، أو غضب أصحاب الأضرحة والمقامات، أو ربط الوباء والنَّجاة منه بسادة «الجان»، وأضرحة الصَّالحين. فعندما أصاب أهل العراق وباء فتاك، هلك به كثيرون، فُسر بغضب أم الجان عليهم، وظلت الحكاية تتكرر، بين كلِّ مائة عام وأكثر، والنَّاس ليس لديهم جديد، مِن لقاح وعلاج، ولا شروط وقاية، لكن كيف يبقى الحال كما هو عليه، حتى عصرنا هذا؟!
هنا تأتي الخُرافة بضاعةً، والتي تبث مِن على المنابر، وأشدها، جاءت على لسان أحد المراجع المعروفين بين أتباعه، وكان زعيماً لمنظمة إسلامية سياسية، مارست، في ما مضى، تفجيرات واغتيالات لا تقل شأناً عن الوباء. ظهر عبر فيديو شائع رابطاً بين عدم طاعة الله والوباء، وبين عدم التقيد بالحجاب والوباء، فاعتبر ملابس الوقاية ما هي إلا فرضاً للحجاب، الذي لم يلتزم به الصينيون! بينما هو نفسه قد أصيب بمدينة يُفرض فيها الحجاب الإسلامي فرضاً! لكن صاحبنا، لم يفكر بمصدر العلاج الذي أنقذه، وهذا الرجل نفسه، في ما مضى، اعتبر «البراق» استباقاً للمركبات الفضائية، فتصوروا الجرأة على العِلم والدِّين أيضاً!
قديماً، تعرض العراقيون إلى وباء مِن أعراضه الخناق، ففُسر حينها بغضب أم الجان، حصل هذا في السنة (456هج)، و(646هج) وبعدهما، لكن التفسير ظل كما هو في مواسم الوباء المتباعدة. يقول ابن الأثير(ت630هج): «ظهر بالعراق وخوزستان، وكثير من البلاد جماعة من الأكراد خرجوا يتصيدون، فرأوا في البرية خيماً سوداً، وسمعوا منها لطماً شديداً وعويلاً كثيراً، وقائلاً يقول: قد مات سيدوك ملك الجن، وأي بلد لم يلطم أهله عليه، ويعملوا له العزاء قُلع أصله، وأهلك أهله، فخرج كثير من النساء في البلاد إلى المقابر يلطمنَ وينحنَ، وينشرنَ شعورهنَّ»(الكامل في التاريخ). أما سيدوك فشاع أيضاً لقباً للشاعر الواسطي أبي طاهر عبد العزيز بن حامد(ت363هج)، فسيدوك سيد الجن وهو سيد الشعراء(التَّنوخي، نشوار المحاضرة).
ورد في «الحوادث الجامعة»: أن امرأة ادعت أنها رأت في المنام جنيةً تُكنى أم عنقود. قالت: إن ابني مات في هذه البئر، «ولم يعزنِ فيه أحد، فلهذا أخنقكم، فشاع ذلك بين الناس، فقصد البئر المذكورة جماعة من العوام والنساء والصبيان، ونصبوا عند البئر خيمة، وأقاموا هناك العزاء».
لكنّ حتى ذلك الزَّمان الغابر، هناك مَن احترم العقل، وفَصل بعقل بين الواقع والخُرافة. قال الملك والمؤرخ أبو الفداء(ت732هج)، وقد حصلت ذلك في وقته أيضاً: «إنما أوردنا هذا لأن رعاع الناس إلى يومنا هذا، وهو سنة سبعمائة وخمسة عشر يقولون بأم عنقود وحديثها، ليعلم تاريخ هذا الهذيان متى كان»(المختصر في تاريخ البشر).
بينما قارئ المنبر، في وقتنا الحاضر، ويُعرف بالشيخ الدكتور، يتلاعب بالعقول كيفما يشاء، ناصحاً بتقبيل المصاب بالوباء من فمه، إذا كان قد قبل ضريح الإمام الحُسين! جاء كلامه رداً على تعقيم الأضرحة! كذلك السلفية المتزمتون بأربيل والسليمانية اعترضوا على وقف صلاة الجماعة في المساجد، والمناسبات الدِّينية، وقاية مِن المرض، واعتبروا ذلك ضد القدر، فما حصل كان أمراً ربانياً. أقول ما الفرق بين المحرض على العمليات الانتحارية وهؤلاء؟! فهم سواسية في ترخيص الأرواح! ما الفرق بين الداعين لأم «عنقود» وبينهم، فيبدو الزمن مختلفاً لكنَّ العقلَ واحد.
يقول منتحل لقب سيد الجن سيدوك، أبو طاهر: «إن دائي الغداة أبرح داءً/وطبيبي سريرةُ ما تبوحُ/يحسبوني إذا تكلمت حياً/ربما طارَ طائرٌ مذبوحُ»(الحموي، معجم الأدباء).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى