مقالات

النشوء والإرتقاء

النشوء والإرتقاء _ منقذ داغر

سألني صديق صحفي عن عيوب الديموقراطية عندنا،فأجبته بأن أهم عيوب الديموقراطية انها ليست ديموقراطية! نعم،فما موجود لدينا هو ديموقراطية صندوقية(نسبة الى صندوق الانتخابات) فُرضت بطريقة فوقية،في ظروفٍ مرَضية،على شعوبٍ شقية،فأنتجت التشتت والضياع وزادت من فقر الجياع وغنى الضباع.هنا لا انسب هذا الفشل للديموقراطية بل لكيفية تطورها عندنا،وطريقة فهمنا ثم استخدامنا لها. ينظر الكثيرون عندنا الى الديموقراطية كطريقة للوصول للحكم وليس كطريقة لأدارة الحكم والحياة. والفرق هائل بين المفهومين،لا من حيث النتائج فقط بل من حيث الفلسفة والمنطلقات. فالمفهوم الصندوقي للديموقراطية هو ما تم استيراده عندنا،حيث يتم الاهتمام بقمة جبل الديموقراطية(بالانتخابات) حينما يحين موعدها كل اربع سنوات أو حينما يُسأل الحكام عن مشروعيتهم القانونية! أما الغاطس الذي يمثل الكتلة الاكبر من جبل الديموقراطية فهو مختفي ليس عن الانظار فحسب بل عن الممارسة والتفكير ايضا. وللاشارة لغير المختصين فان البعض يعدد سبع مبادىء للديموقراطية الليبرالية الحقيقية كسيادة الشعب،والمساواة السياسية،وحرية التعبير،وحقوق الانسان …الخ، وآخرون يحددون عشرة مبادىء وهناك من يقول باكثر من ذلك . لكن سياسيينا لا يفهمون ولا يتمسكون سوى بصندوق الانتخابات فتراهم يصلّون ويحجّون للصندوق،وينسون صاحب الصندوق وربه (الشعب).علينا الاعتراف اولا ان الديموقراطية هي مفهوم غربي جرى تطويره عبر اكثر من خمسة قرون بدأت اولا بحركة الاصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر في المانيا في القرن السادس عشر والتي انصبت على تحدي فكرة الوساطة الكنسية بين الله والناس.ثم جاءت حركت التنوير في القرنين السابع والثامن عشر لتشهد نقاشا فكرياً تنويريا أدخل مفاهيم العلم في صلب الحياة الاجتماعية وأخضع سلطة الكنيسة للنقاش العام.هذا النقاش لم يركز فقط على الجوانب الدينية بل شمل طبيعة العلاقات الاجتماعية والسياسية التي يمكن تقبلها في ظل هذا التطور العلمي والفكري. وقد كانت اتفاقية ويستفالي Westphalia أحدى ثمرات الحراك السياسي الفكري لذلك العصر. وكان القرن الثامن عشر قد شهد الثورة الفرنسية التي غيرت الفلسفة والممارسة السياسية والاجتماعية في اوربا والعالم، كما شهدت بدايات ظهور النظم الانتخابية في اوربا وامريكا(حيث جرت اول انتخابات رئاسية هناك).بعد ذاك شهد القرن التاسع عشر نقاشاً فكرياً وتطوراً جديداً في الفكر الديني المسيحي،وبروز الفلسفة الفردية individualism التي جعلت الانسان الفرد (لا الجماعة) هو محور اهتمام السياسة فبدأ التفكير بنظم الانتخاب الفردي. رافق ذلك حركة قوية لتحرر المرأة وقفزة كبيرة في عجلة التطور الصناعي والاقتصادي. ثم جاءت بدايات القرن العشرين لتشهد حركات اجتماعية وسياسية واقتصادية غيرت من مفاهيم وفلسفة الحكم. هنا يمكن الاشارة على سبيل المثال الى المفهوم الفيبري(نسبة الى ماكس فيبر) في تأثير فلسفة التدين بالاقتصاد والسياسة،كذلك تأثيرات ودرو ولسن على حقوق الانسان،ثم الحرب العالمية الاولى وما تلاها من ثورة بلشفية في روسيا وكساد عظيم في امريكا وغير ذلك من المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أثرت في نظم الحكم ومفهوم الليبرالية والديمقراطية. كما شهد النصف الثاني من القرن العشرين الكثير من المتغيرات والاضطرابات والتحولات التي اثرت في مفهوم الديموقراطية سواء في اوربا او امريكا،لعل في قمتها سقوط المنظومة الشيوعية وفشلها الذريع في الاستجابة لمتطلبات العصر الحديث. ولا شك ان بداية الالفية الثالثة للميلاد شهدت احداث كبرى كالحرب على الارهاب،وغزو أفغانستان والعراق،وأخيرا تأثيرات جائحة كورونا. هذه التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية أدت الى نشوء وتطور أكثر من أنموذج واحد للديمقراطية الغربية . صحيح ان كل هذه النماذج تعتمد الصندوق الانتخابي لاختيار الحكام،لكن فلسفة وطريقة الحكم وتأثيراته في الحياة الاقتصادية والاجتماعية تتباين بشكل واسع. فالديموقراطية الليبرالية التي تتبناها أمريكا تختلف عن الديموقراطية الاجتماعية التي تتبناها أوربا. أما في عالمنا العربي،وأعتمادا على ممارساتنا الاستهلاكية المعتادة حيث الاستيراد لا الانتاج،والتقليد لا التأصيل فقد بقينا تائهين في حركة بندولية (كحركة رقاص الساعة الجدارية) بين أكثر من أنموذج للحكم تم استيرادها،أما جغرافياً من الغرب ،أو تاريخياً من التراث وهذا ما سأفصله أكثر في الحلقة القادمة. (يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى