مقالات

ان تكون حزبيا لا يعني ان تكون وطنيا

الكاتبة: د. لاهاي عبد الحسين

الوطنية شيء والحزبية شيء آخر. بينما تعني الوطنية أنْ تكون مهتماً ومحباً ومنتمياً لبلدك بكل ما فيه من جماعات ذات مواصفات متنوعة،

فإنّ الحزبية تعني أنْ تكون مهتماً ومحباً ومخلصاً لحزبك الذي يمثل تنظيماً محدداً هو جزء من الجماعة الوطنية الواسعة ذات الأجزاء المتعددة. الوطنية قيمة مركزية تعبر عن الولاء للوطن والتوافق على أهداف مشتركة وهوية مشتركة ومسؤوليات مشتركة. الوطنية أنْ تخص أرضاً وجماعة بشرية بالتواصل الذهني والوجداني والعقلاني الإيجابي وتشعر بالتعارف معها أي أنّك ترى نفسك من خلالها. فيما الحزبية تعني الإنتماء والتوحد مع تنظيم سياسي يمثل جزءاً من مؤسسات المجتمع الكبير ويقوم بدور الأداة فيه لتحقيق المصالح والغايات ذات الصلة بالمنتسبين إليه والمشتغلين في صفوفه بصفة أعضاء. يمكن للتنظيم السياسي أنْ يكون وطنياً عندما يقبل التعايش مع غيره من الأحزاب الممثلة لجماعات نظيرة وبعكسه فإنّه يصبح أداة للتخريب والفوضى وإشاعة عدم الإستقرار في المجتمع.

لعبت الأحزاب السياسية دوراً مهماً في تطوير البيروقراطيات الحديثة بغية رفع مستوى الأداء وتحقيق الفعالية كما في الدول الأوروبية وبخاصة في تاريخها الحديث منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم. وواصلت الأحزاب دورها في ظل الديموقراطيات الحديثة وأثبتت أهميتها لتنشيط هذه النظم وتطويرها. أظهرت التجربة السياسية في المجتمعات الحديثة صعوبة العمل في مجتمعات كبيرة من حيث حجم السكان مما جعل المقاربة الكلاسيكية بالإتصال المباشر بالفرد شبه مستحيلة وأدت في أحسن الأحوال إلى فوضى وتشتت يحول دون القدرة على بلورة موقف جماعي يلبي المطالب التي تتطلع إليها الأكثريات الواسعة في المجتمع. وهذا ما أوجب على الناس الدخول في تنظيمات سياسية عرفت بالأحزاب للتوافق على حد معين من الإجماع وخوض الإنتخابات وفق ذلك ضمن برامج ذات أهداف محددة.

وبالنظر لتصادم البيروقراطية مع الديموقراطية بالطبيعة حيث تقوم الأولى على قاعدة احتكار السلطة بطرق شتى من بينها السيطرة على تبادل البيانات والمعلومات فيما تقوم الديموقراطية على الإنفتاح والتشارك فقد لعبت الأحزاب دوراً مهماً لخفض القبضة البيروقراطية وتمكين الديموقراطية من ممارسة دورها في تمثيل العامة. لم يكن هذا ممكناً بدون المحافظة والحرص على تسييد العقلانية والموضوعية للحد من تصادم الجماعات والأفكار ونشوب الصراعات التي لا مبرر لها بسبب النزعة إلى الكذب والإدعاء تحقيقاً لمكاسب ضيقة ومحدودة ترتبط بأشخاص الحزب وبخاصة المتنفذين والأقوياء فيه.

اختلطت الوطنية بالحزبية في مجتمعات نامية استخدم فيها قادة الأحزاب والمروجين لهم الوطنية غطاءً ووسيلة لكسب ود أعداد كبيرة من المواطنين لتوفير شبكة الأمان الاجتماعية اللازمة لهم. وكانت هذه علامة سوء مهدت للإلتباس والتداخل بين ما هو وطني وعام من جهة، وبين ما هو جزئي وخاص من جهة أخرى. وبرز هذا بوضوح عندما ظهرت الحزبية كمنظومة في مجتمعات ذات بنى عشائرية ودينية وطائفية عملت على تغذية التعصب والإنغلاق على مستوى الإنتماءات المحددة. ولعبت المشاعر القومية الضيقة في بلدان يعيش فيها عدد متنوع من الجماعات العرقية والقومية دوراً في إذكاء التعصب والإنغلاق. فكان أنْ تحولت الأحزاب إلى مدارس تعبوية للتدريب والحث على الكراهية والحقد على كل ما هو خارجي ضمن الحدود البنوية للحزب كتنظيم. فكل من لا ينتمي إلينا ولا يقبل بأفكارنا ولا يؤيد رهطنا ليس منّا وعلينا أنْ نقيم الحدّ عليه، عملياً.

لم تتوانَ الأحزاب في التعبئة لغاياتها التي تضيق على الوطنية بمعانيها الواسعة والمفتوحة مما أدى وبخاصة بعد مرور فترات من الزمن إلى خلق جماعات من البشر لا تفهم الوطنية وتمارسها بقدر ما تفهم الحزبية على أنّها التعبير عن الوطنية. حدث هذا عندما شاعت ثقافة الخلط بين المفهومين على أيادي أشخاص لا يتقنون إلا فن الترديد والتعلق بمقولات جاهزة أو أشخاص يملكون موهبة تطوير الأفكار إنّما وفق مسلمات مختلة. فكان أنْ صار الوطن هو الحزب والحزب هو الوطن. بهذا أخفض الوطن إلى مستوى جزئي (الحزب) بدل أنْ يرفع هذا الجزئي ليكون في خدمة الجامع والكلي (الوطن). طريقة ملتبسة يقحم فيها الأفراد من خلال استغفالهم وخداعهم ليصبحوا مادة قابلة للإستهلاك فيما يمكن أنْ يسمى بـ “الدائرة الشريرة”. دائرة يحصر فيها الأفراد ممن يعطون صفة أعضاء ليدوروا داخلها دون السماح للغالبية العظمى منهم بالإفلات منها. تنجح الأحزاب كعامل تنشيط وفعالية للنظام السياسي الديموقراطي في المجتمعات التي تقوم على قاعدة “حق الفرد”، وليس حق العشيرة أو الدين والمذهب أو الجماعة العرقية أو توليفة مشتركة من أكثر من واحدة من هذه العوامل كما في اجتماع الدين والعشيرة والجماعة العرقية ليكون الطوق أكثر إحكاماً وهيمنة على قرار الفرد وقناعته وبالتالي أقل قدرة على الحرية والمناورة والتحليق في عالم المختلف وغير المألوف مما يتطلبه المجتمع لتنشيط حركته ورفع مستوى حراكه وحيويته.

يشهد تاريخ الأحزاب السياسية في العراق عموماً وتاريخ حزب البعث خصوصاً على هذا السيناريو. ولم ينج نظام الأحزاب اليوم من هذه الدائرة التي حولت الأشخاص إلى تجمعات منزوعة الوطنية تحاذر من بعضها البعض وتترقب وتحوك المقالب والمؤامرات ضد بعضها البعض. حملت الظروف القاسية التي مر بها المجتمع العراقي حيث انتشر الإرهاب وساد العنف لفترات من الزمن فرصاً لمعاينة أشخاص لم يكن يهمهم ما يحصل لأبناء جلدتهم في المواطنة من مصير. فقد فرح البعض وتحامل البعض الآخر على إخفاء مشاعره وبخاصة مشاعر الفرح والشماتة بمواطنيه وهم يلقون أشد المصائر وأكثرها إيلاماً فقط لأنّهم لا ينتمون لما ينتمون إليه حزبياً وسياسياً. بل حدث أنْ توجع البعض لمصاب مواطنين في دول أخرى أكثر من توجعهم لما نزل بمواطنيهم من أذى وضرر.

ظهر واضحاً أنّ الحزبية في العراق تاريخياً وليس راهناً فحسب لم تنجح في زراعة الروح الوطنية مما جعل أمر وصف هذه الأحزاب بـ “اللاوطنية” علمياً جداً. زاد في ذلك ارتباط بعض هذه الأحزاب فعلاً بجهات أجنبية تستمد العون منها مما أدى إلى نتيجة متوقعة تمثلت في نفرة اجتماعية واسعة مما أطلق عليه “حكم الأحزاب”. فيما قاوم العراقيون في الماضي هيمنة الحزب الواحد الحاكم بطرق شتى وشعروا بالقرف من محاولة زجهم في تنظيماته بيد أنّهم اليوم يخبرون تجربة مختلفة. تتبدى هذه التجربة بتشتت وبالتالي انخفاض فعالية هذه الأحزاب في التأثير بسبب تصادماتها مع بعضها البعض وانشغالها بتأمين حصصها في الهيمنة وإهمالها لقاعدتها الشعبية الأوسع. لعل هذا ما يفسر انفضاض الناس عنها وخروجهم في تظاهرات واسعة عرفت بإسم “تظاهرات تشرين”، كان أحد سماتها الرئيسية رفض دخول أي من الأحزاب الداخلة في العملية السياسية الجارية في سياقها. تكون جمهور المتظاهرين من أشخاص وصفوا بأنّهم عابرون للحزبية ملتحقون بركب الوطنية الواسع مما وجد التعبير عن نفسه بشعار “نريد وطن …”.

لقد خلقت الحزبية كظاهرة جدراناً من العزلة الأخلاقية والوجدانية والإنسانية بين الناس في الوقت الذي تراجعت فيه الوطنية بسبب ما أقحم في ميدان التفاعل الاجتماعي من عوامل الفرقة والتمايز والإنغلاق. وكان للحزبية أنْ صارت عنواناً للعزل والتمايز مما أدى بها إلى أنْ تنغلق على نفسها. هذا لا يعني مع ذلك أنْ يقر الناس بحقيقة الفشل بين الوطنية والحزبية ويكتفوا بتفهم التداخل والإلتباس. فالتنوع في المجتمعات الإنسانية شائع ومتعدد الأبعاد. يضاف إلى ما يذكر في الحالة العراقية (العشيرة والدين والمذهب والجماعة العرقية) العنصر والطبقة الاجتماعية والعمر والجندر والوظيفة، إلخ. استطاع كثير من هذه المجتمعات الخروج من “أطواقها الحابسة”، بطريقة الإلتفاف حول قيادة وطنية جامعة يمكن أنْ تتكون من أحزاب تتوافق على ما هو جوهري لصالح القضايا الوطنية العليا الجامعة أو نخب ثقافية تتساند فيما بينها لتمارس القيادة على نحو آدمي وأخلاقي وليس بطريقة الكي والعزل والتحقير والتنمر وحتى الحرق والقتل وما إليها 
من طرق الإستبداد والتسلط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى