مقالات

بلد الدكتور

بلد الدكتور – ياس خضير البياتي

لا أقول: من علامات قيام الساعة بلغة رجال الدين والفقه؛ بل أقول: من علامات انحطاط مجتمعاتنا؛ أن يتساوى العلماء والجهلاء، و”يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”.

إنه العجب العجاب أن نرى مجتمعنا يحطم الرقم القياسيَّ لأعداد مَن يحمل لقب الدكتور والمفكر والباحث والإستراتيجي، أكثر من مجتمع اخترع الطائرات والسيليكون والذكاء الاصطناعي والذرة. مجتمعنا الذي لا يزال في أدنى سُلم التطور البشري، ولا يزال يستورد ملابسه ومأكله ومشربه وأقلامه وقرطاسيته وأوراق التواليت من الخارج!

إنها متناقضات غريبة؛ فبينما يطوف العراق بالنفط الأسود، وتكثر فيه الألقاب العلمية والإعلامية الكثيرة؛ فنجده لا ينتج سوى زيت التخلف، ودخان الجوع، وفقر العلم والاختراعات؛ بينما لا نجد زحام الألقاب العلمية والثقافية، والتفاخر بها في مجتمعات أخرى، رغم أنها تنتج لنا كل يوم؛ بل كل ساعة مبتكرات العلم والحياة!لا يزال العالم المتطور بخيلًا على أفراده في توزيع الألقاب، والتنابز بها؛ فهو يعرف أن وجاهة العلم في عقل الفرد وليس في لقبه. فما أكثر المخترعين لديها الذين غيّروا العالم وهم لا يحملون “دال” العلم، ولا لقب “الكبير” في الثقافة والفكر؛ حيث إن أربابها يأبوْن تقديم اللقب على الاسم.

ومازال أهل العلم يُجادل بمنح بعض الألقاب لكبار الشخصيات الفكرية التي شغلت الدنيا بعلمها ونظرياتها أمثال ماركس ونيتشه وسارتر وكامي، على سبيل المثال لا الحصر، بل يختلف بمنحهم أي الألقاب المناسبة لهم؛ المفكر أو الفيلسوف أو عالم الاجتماع.في أوطاننا يقول العالم الحقيقي: لا أدرى؛ بينما الجاهل يُصر على ادّعاء العلم والمعرفة، كأنه فيلسوف عصره وعبقري زمانه. عندنا “شعيط ومعيط” يحملون لقب الإستراتيجي والخبير؛ يتجولون في الفضائيات ناشرين جهلهم السياسي بفتاوى المعلومات المضللة والغبية. وعندنا أيضاً ظاهرة “كتاكيت” العلم و”الدال”، تنتشر كالخلايا السرطانية لنشر الجهالة والكذب والغثيان؛ حتى صرنا بلد “الدكتور” الذي لا ينتج سوى الجهل، وهوس الألقاب الكاذبة والفارغة التي لا تستطيع أن تفك حرفًا، أو أن تنتج إبداعًا فاعلًا في الحياة.

ومثلما تكثر التفاهات والغيبيات في الحياة العراقية، وينتشر الجهل في كل ميادين الحياة، وينحط التعليم ومخرجاته؛ يزداد معها هوس “الدال”، واستثمار فرصة الحصول عليها، وذلك في ظل تعليم بلا جودة ولا جدوى؛ بسبب عدم وضوح فلسفته وضعف أساليبه وأهدافه، وفساد منظومته التعليمية والإدارية، وتحوله من مؤسسة علم إلى دكاكين تجارية لبيع الشهادات المعلَّبة بالفساد والرشاوي والحزبية.صارت الشهادة العُليا جوازًا للتباهي والحصول على الدينار الأكثر، والمنصب الأعلى، والمكانة الاجتماعية الأرفع؛ مثلما صارت أيضًا خرابًا للحياة، ومفسدة للنفوس والتطلُّعات والسكون المعرفي.

صارت “الدال” اليوم علامة فارقة للتندُّر والنكات مقرونة بأوصاف لا يليق ذكرها في هذا المقام. صارت سُبَّةً بعد أن كانت مفخرةً لصاحبها؛ بل تحوَّلت إلى لعنة لمن يحمل هذه “الدال” المسكونة بجنون العظمة!مع الأسف صار “حرف الدال” خيانة لمبادئ النفس والعلم، وجريمة علمية؛ حيث يُباع في كليات “السوبر ماركت”، وفي الطرقات والدكاكين، وأسواق بيع الشهادات العليا. صارت الشهادات تُشترى كما يُشترى ما رخُص وما غلا.

صارت سلعة تجارية، حيث العلم يُشترى دون تعلُّمٍ ومثابرةٍ واجتهاد، وأصبح لها طقوس خاصة للتزوير والسرقات؛ بل خُصِّص لها خدمات توصيل طلبات الرسائل العلمية جاهزة للمنازل!في زمن “الدال” يرتفع الجاهل، ويهبط العالم، ويختفي العلم، ويظهر الجهل، وتكثر التفاهات، ويبقى الجَهل الصّرف، ويقل رجال العلم، وينزوون أو يموتون، ويبقى الجهلاء يتعاطَوْن مناصب العلماء في التعليم! فيُفتون بالجهل ويعلِّمونه؛ فَيَضِلون ويُضِلُّون، ثم يذهب العلم والعمل من الناس.

وصدق مَن قال: يأتي على الناس زمان تكثر علماؤهم؛ فلا ينتفعون بعلمهم، ولا ينفع الله بعلمهم، وترون جهَّال الناس، يتباهوْن بالعلم، يتغايرون عليه كما يتغاير الرجال على النساء؛ فذلك حظهم من العلم!من الآخر، لفد عم البلد طوفان للطحالب البشرية الضارة، فازداد الجهل والجهلاء، وصار في هاوية الهاويات، وأصبحت “الدال” بلا هوية ولا رائحة ولا لون، ولن تُضيف للحياة العلمية إلا خشونةً في مفاصل جسدها، وتصلُّبًا في شرايينها؛ فلا جدوى من هذا التكالُب المريض على الشهادات العليا في بلادنا، وبالذات على لقب “الدكتور”.

فأعراضه تدل على أنه مرض اجتماعي يتحمله المجتمع الذي لا يزال مصابًا بعقدة الوجاهة والألقاب، وهو يعكس أيضًا فسادًا في المنظومة السياسية والتعليمية، واستسهالاً في العملية التعليمية؛ بل هي سياق عام لفلسفة التخريب المُمنهج الذي يجعل هذا البلد خرابًا مُنظمًا؛ إذا فسد التعليم فسدت الأمة، ولن تجد فرص البناء والتقدم مأوى لها.

لقد شاهدتُ مواقف مضحكة مبكية لهذا الحرف الصغير الذي غزا حتى بيوتنا؛ فقد زرت بيتًا لأحد الأصدقاء، ووجدت زوجة “الدكتور” تُنادي زوجها باللقب طوال جلستنا بطريقة سمِجة!، وعرفتُ أن صاحب البيت يغضب ويثور عندما تناديه زوجته “أبا فلان”.

والتفسير الوحيد لهذا هو عدم ثقة حامل اللقب بنفسه، ووجود اهتزاز بذاته وشخصه، وأن جيش فساد الفكر قد احتل وعيَه.غير أنني لا أعمم قولي السابق، بصفة مطلقة، فيمن يحملون لقب “الدال”، ولا أشكك في مثابرة وذكاء بعض الطموحين من الشباب؛ لكنني أتحدَّث عن ظاهرة فيها استثناءات، فما يجري من فوضى الشهادات ينفطر منه القلب، ويسكنه الحزن والأسى، ويجعل عراقنا؛ أرض (المتنبي) ومسقط رأسه تتفجع بإنتاج الجهل السريع على قدر الضغط السريع، بعد أن كانت هذه الشهادات تستوي وتنضج على نار هادئة.

كانت الشهادة أيام زمان مفخرة من الوزن الثقيل للتداول المحدود، واليوم أصبحت لتداول النكتة والتندُّر. وإنني على المستوى الشخصي كرهت هذه “الدال” في زمن (السيولة الدالية)؛ فهي همٌّ كبير، وهي سُبَّة ولعنة… فمَن يفصل هذه “الدال” عني الآن لأستريح؟!نعم، هي ليست مشكلة خاصة بنا في العراق؛ بل هي ظاهرة عربية بامتياز، لكنها عندنا صارت ظاهرة للخرافة والوهم والجهالة؛ لذلك لن تنفعنا في تنمية البشر والحجر والمدن، حتى لو تحوَّلنا إلى بلد الأربعين مليون دكتور!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى