مقالات

تاريخ الصمود الاسطوري

د. فاتح عبدالسلام

قبل أيام، قام الفلسطينيون في غزة بوضع صور شهداء احد العمارات السكنية فوق انقاضها ، كأنها مزرعة لأولئك الاطفال والنساء الذين قضوا في تلك الليالي التي عصفت عليهم فيها الطائرات بالحمم. انهم يخلدون الابرياء الذين كانوا ينتظرون صباح اليوم التالي ليذهبوا الى المدارس او دكاكين رزقهم أو منازل أهلهم. في الموصل، البلدة القديمة لا تزال هناك جثث لم يتم اخراجها حتى اللحظة بعد أكثر من اربع سنوات من جلاء تلك الغمة، وهناك مئات البيوت التي جرفها الانتهازيون وآكلو السحت الحرام في غفلة ومحيت معالم الاحداث قبل ان توثق. بيوت متهالكة كانت كل ما يمكن ان يستتر به النساء والاطفال والشيوخ تحت قصف معركة تحرير الموصل. بيوت طُمرت وعوائل كاملة لأزقة في حي القليعات او الشهوان أو الميدان أو حظيرة السادة أو الفاروق، كانت تجتمع في أعمق سرداب لمنزل هناك فكان أعمق مقبرة جماعية لهم بعد ليلة قاصفة. هناك عوائل لم يبق منها أحد أو بقي شخص أو اثنان أو ثلاثة، صادف وجودهم في مناطق اخرى ، وقد فقدوا الامل في الاستدلال على مكان جثث ذويهم. أليست المدينة القديمة كانت مزرعة لجثث الشهداء، اليس لهم حق علينا أن نزرعها بصور اولئك الاهالي الذين كانوا بين فكي كماشة من النار. هل يجوز ان تمضي تلك الايام السود من دون ان يكون هناك استذكار للضحايا، الذين قبل ان تأكلهم النيران، كانوا قد فقدوا آخر قطرة ماء او كسرة خبز كانوا بحاجة لها، وهم محاصرون لا معين لهم. هناك تاريخ من الصمود الاسطوري للأهالي في الموصل لا يمكن أن نقبل أن يُطمر كما طمروا الاهالي في السراديب . الجيوش المنظمة كانت عند الانسحابات تضع خططا لكي لا تدفع الخسائر وتستعد لذلك، فكيف الحال لمن كان لا حول له ولا قوة. علينا أن نضيء البلدة القديمة بصور الاهالي الشهداء، ونكرم مَن بقي من تلك العائلات المبادة. انَّ التاريخ الذي ذهب بعضهم الى تزويره أو تجاهله بلمح البصر، لن يرحم المزورين والانتهازيين والراقصين على الجراح، ولن ننتظر طويلاً لنرى ذلك اليوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى