منوعات

جلجامش الذي رأى كولاج الاشكال الفنيه وجمالياتها

د. سعد عزيز عبد الصاحب
قرأ المسرح العراقي السردية الكبرى (ملحمة جلجامش) برؤى فنية وفكرية متغايرة وبأساليب إخراجية شتى نمّت عن وعي الفنان العراقي بأزمات عصره وعلله ومشكلاته الاجتماعية العضوية، فذاك الكاتب الراحل (عادل كاظم) يقترح في مسرحية (الطوفان) قراءة طبقية معاصرة للملحمة، فيبدأ أحداث نصّه بعد موت أنكيدو على عكس الملحمة وتسلسلها التقليدي المعروف مستحدثا لطبقتين اجتماعيتين السادة والعبيد.
 
وليستمر الحاكم المستبد (جلجامش) بتماديه وطغيانه وسحقه للناس البسطاء بمؤامراته مع الكهان وبقراءة إخراجية نابهة من (إبراهيم جلال) في حين اقترح المعد والمخرج الراحل (سامي عبد الحميد) قراءة أركولوجية للنص الملحمي تمظهرت فيها حفريات شكلية باهرة بفواعل السينوغراف الراحل (كاظم حيدر) حيث النحت السومري البارز والأشكال الأسطورية الغارقة في لجج الافتتان بالإنسان العراقي لباسه ومظهره وحضارته التي علمت البشرية الكتابة وأصولها، وأبقى (عبد الحميد) على التسلسل التقليدي للحكاية الأسطورية، بينما هو يغاير ذلك في مسرحية (الليالي السومرية) بنص معد عن الملحمة للطفية الدليمي، حينما ركز في نص عرضه الجديد على علاقة جلجامش وأنكيدو بالنسوة (عشتار وسيدوري وصاحبة الحانة) من منطلقات تبحث في (الجندرية) و (النسوية) و(الرس) الجذر الحقيقي للإنسانية بفواعل حسيّة وغريزيّة لإدامة الصراع بين العاطفة والعقل في علاقة البطلين الأسطوريين مع النسوة. 
وعمل المؤلف والمخرج (عقيل مهدي) في مسرحية (الصبي جلجامش)على توليف نص عن الملحمة من الوثائق التي ذكرها (كريمر) و (طه باقر) و (فوزي رشيد) في كشوفاتهم الأركولوجية وتأليف سيرة افتراضية جديدة لجلجامش الذي يقاتل الأشرار ويدحرهم بعيدا عن مدينته الفاضلة، أما القراءة الجديدة للمعد المخرج (حسين علي هارف) فجاءت تحمل كولاجا فنيا وهجنة أسلوبية وتركيبية مغايرة لشواغل الملحمة العراقية سابقا، حين يوظف مسرح الدمى وخيال الظل والكيروغرافيا والشاشات الرقمية في توليد عرضه الموسوم (جلجامش الذي رأى) فيقول في فولدر العرض: (من حقنا أن نفخر بتراثنا الأدبي القديم الخالد بوصفه أقدم نص سردي في العالم، ولكن من واجبنا أيضا أن لا نكتفي بمشاعر الفخر، وأن نتعامل مع هذا النص الخالد لنقدمه في صور وأشكال إبداعية مختلفة لإشاعته والتثقيف به واستخلاص العبر والدروس  منه). 
فـ (هارف) يدعو الى عمل انزياحات على مستوى الشكل أولا غير متناسٍ للقيم التربوية والجمالية التي يسعى إليها في ترسيخ الملحمة وثيمها المؤكدة على فكرتين مهمتين، هما الصداقة كمفهوم إنساني وفكرة الخلود بالعمل، فما يخلّد الإنسان هو عمله وما يتركه من أثر هذا على صعيد المضمون الدرامي، وكذلك الإعلان عن شريحة المتلقين المستهدفة في العرض، وهي شريحة الفتيان الذين ما أحوجهم اليوم ليتعرفوا على تراث بلادهم وملاحمه من خلال وسيط فني يحمل النسقين السمعي والبصري باحترافية أدائية
خبيرة. 
والاستعانة بممثلين على المستوى الصوتي لهم علاقة وطيدة وتاريخية بالملحمة السومرية من حيث فهمها وأداؤها كسامي قفطان وفاضل عباس وأميرة جواد وجبار خماط، فضلا عن أصوات مهمة أخرى كخالد أحمد مصطفى في دور اوتونابشتم، وسولاف في دوري كاهنة الحب وسيدوري، وزينب عبد الأمير في دور عشتار، وعبد الرحمن مهدي في الرجل العقرب، وحسين علي هارف في شخصيتي خمبابا واورشنابي، فضلا عن الدور الكبير والجهد المضني الذي اضطلع به محرّكو الدمى على المستوى البصري، وخلق هارموني سمعي بصري بالضبط الحركي والإيقاعي للدمى على الرغم من ثقلها جاء أداؤهم رشيقا ومتوازنا، وعملوا أيضا على إنتاج شكل أدائي إيمائي امتلك دقة وتركيزا في حركة اليدين عوضت ثبات الوجه لدى الدمى والأقنعة وأسهمت في خلق علاقة مع الفضاء والشخوص والأشياء على خشبة المسرح، فنذكر ألمعية أداء ناجد جباري في دور جلجامش وعلي الركابي بدور أنكيدو وأوشنابي والأفعى، ومحمد مؤيد بدور اوتونابشتم، وعمار كاظم بدوري ننسون وسيدوري، وهديل سعد بدوري كاهنة الحب وعشتار، ولا يمكن نسيان الأداء الحركي الصامت للممثل المبدع (أحمد محمد عبد الأمير) في دور خمبابا الذي عمل على إنشاء تناغم بصري بين خيال الظل والصورة الرقمية، فلم نعد كمتلقين نميز بين الاثنين أيهما حالة رقمية او خيال ظل نتيجة للمرونة الجسدية والإيمائية التي
امتلكها.
فضلا عن المستويات الإخراجية التي خلقت وحدة بنائية بين الأنواع الفنية التي تبدت في العرض كمشهد رحلة جلجامش البحرية ولقائه اوتونابشتم، كان مشهدا مؤثرا بامتياز، وكذلك مشاهد الصراع مع الثور السماوي وخمبابا جاءت مقنعة، ولا يمكن إغفال الأغاني الجميلة التي كتبها (حسين علي هارف) ولحنها (إبراهيم السيد) وأداها الممثل (فاضل عباس) حققت غرضها التربوي والتطريبي في ضوء الوضوح والجمال التنفيذي الذي خرجت به، أخيرا لم يتح لنا المخرج أن نطرح رأيا نقديا فيما هو الجديد في قراءته للملحمة، فهو يقطع الطريق على أسئلتنا واستفهاماتنا وتقصياتنا وتأويلاتنا من خلال ما يذكره في فولدر العرض فهو يقول: ( لم أسعَ إلى إسقاط أو تأويل لملحمة جلجامش، فقد كان هدفي التعريف بالملحمة لشريحة الفتيان اليافعين الذين لا يعرفون الشيء الكثير عنها..)، ومن حقه أن يحدد هدفه ومبتغاه بالشكل والطريقة التي يرتئيها ويريدها فهو حر في ما يشترع، وأرى أن الإضافة الجديدة للملحمة هي في جودة الشكل وتركيب كل تلك الألوان والأنواع الفنية القديمة والمعاصرة وصهرها في بوتقة فنية
واحدة. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى