مقالات

حداد على المستقبل

حداد على المستقبل – جليل واد

يمع انه لم يسترزق من الصباح الباكر حتى الظهر في يوم قائض ، اقتربت درجة الحرارة فيه من الخمسين مع رطوبة عالية ألصقت ملابسه بجسمه ، لكن العرض الغريب والمثير لصاحب كارتونة صحون ( الفرفوري ) دفعه للموافقة على حملها والوصول بها الى الطابق الثالث مقابل ثلاث عبارات حكيمة ، لكل طابق واحدة ، معلا لنفسه بأن الحياة ليست مالا فحسب ، بل فيها مما هو معنوي لا يقدر بثمن ، واستشهد لإقناع نفسه برموز وشخصيات معروفة ضحت بأرواحها دفاعا عن قيم انسانية نبيلة ، لذا شد حزامه وانطلق بحماس الى الطابق الأول ، وما ان وصل نهاية السلم وقبل أن يستريح ولو قليلا سأل صاحب البضاعة : ما حكمتك الأولى ؟ ، فقال له : لا تصدق ما يقوله السياسيون عن المستقبل ، وكل من قال لك ان مستقبلا زاهرا ينتظرنا بوجودهم قل له : نعم ولا تصدق ، امتعض الحمّال من هذا الكلام الذي صار في عداد البديهيات بعد ما يقرب من العشرين عاما على تجربة سياسية مريرة ذاق فيها الناس شتى أنواع الويلات ، بعد ان استبشروا خيرا بالتغيير للخلاص من ويلات سابقة ، لكن صاحب البضاعة استطرد بالكلام بالرغم من امتعاض الحمّال الذي قدحت عيناه شررا ، يا أخي الذي لم يتمكن طوال هذه المدة من بناء نظام سياسي على اسس متينة وموضوعية وغير قابلة للاختراق والتأويل على حسب الهوى فلا تتوقع للمستقبل منه خيرا ، لقد غادرنا المستقبل ، وانا من جانبي اعلنت حدادي عليه ، واذا لم تثق بكلامي تأمل فيما يجري ، هل للذين يقودون المسيرة صورة معينة للمستقبل ؟، وأسأل أهل العلم ان كان لهم قولا يجافي رأيي ، فكل ما يحدث يؤكد ان بلادنا ذاهبة للمجهول ان بقت الحال على ماهي عليه . استغفر الحمّال ربه ، وصلى على نبيه ، وردد مع نفسه : ربما تكون الحكمة الثانية أفضل .وفي الطابق الثاني بدت مظاهر التعب على الحمّال الذي تصبب جسده عرقا ، فاستعجل صاحب البضاعة بسماع الحكمة الثانية ، فأجابه : كل من قال لك ان قادتنا بمثابة آباء لنا ، قل له : نعم ولا تصدق ، وأردف بابتسامة ساخرة : اغسل يديك منهم بسبع صابونات . فمسك الحمّال أعصابه ، وكاد يشتمه لهذه العبارة المعروفة والتي لا تعد حكمة ، فلو كانوا آباء لما قضى عمره حمالا ، لكنه استعاذ بالله من الشيطان الرجيم ، ولام نفسه على قبوله بهذا الأجر التافه ، ومع ذلك واصل صعوده سلم الطابق الثالث غير مكترث لما يقوله صاحب الصحون الذي كانت شهيته مفتوحة للكلام : انهم ينعمون بالعيش الرغيد في القصور تحت التبريد ، بينما نتلوع نحن تحت لهيب الصيف وتعثر الكهرباء ، مثلا : اذا مرضوا يسافرون الى خارج البلاد لمعالجة أنفسهم ، بينما نحن نراجع مستشفيات متهالكة لا دواء شافي فيها، هل رأيت أبا حقيقيا يفضل نفسه على أهل بيته ، بل ويدع الأمراض تفترسهم ، وفوق هذا الضيم تنهش بهم مخالب الأطباء والصيدليات الخاصة أمام أنظاره ، ويعرف عين اليقين ان غالبية مالكي الصيدليات فقدوا القيم الانسانية لمهنتهم ، ووصل الأمر ببعض الأطباء صرف دواء لأغراض التصريف وليس لعلاج المرض ، ولو كان الأمر بيدي لمنعت المسؤولين من العلاج في الخارج ، ليكون حالهم كحالنا ، ربما عند ذاك يهتمون بنظامنا الصحي .وضع الحمّال كارتونة الصحون على حافة نافذة ليسترجع أنفاسه ، فسلم طابق واحد متعب لرجل قضى ثلاثة أرباع عمره حمالا ، وقد يأس من انتظار الغد المشرق الذي وعده المسؤولون به مذ اختط شاربه ، وبأنفاس متقطعة طلب سماع الحكمة الأخيرة ، فقال صاحب الصحون : كل من قال لك ان الأمريكان أخطأوا في سياستهم بالعراق قل له : نعم ولا تصدق ، غضب الحمّال وطلب من صاحب البضاعة السكوت ، ودفع كارتونة الصحون لتسقط من الطابق الثالث الى الأرض قائلا : كل من قال لك ان صحنا واحدا سيبقى سليما قل له : نعم ولا تصدق .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى