مقالات

حياد العراق بين الافتراض والواقع

فراس ناجي

فيما يواصل الخطاب السياسي للدولة العراقية محاولاته للتأكيد على إلتزام العراق بمبدأ الحياد والابتعاد عن المحاور الإقليمية، يزداد التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية العراقية، كما يتصاعد دور هذا التدخل في الصراع السياسي بين حراك ثورة تشرين وبين أحزاب النخبة الحاكمة.فقد رفض الحراك الشبابي تدخلات الدول الأجنبية وخاصة إيران، واستنكر ولاءات النخبة السياسية الحاكمة لمراكز القرار الخارجي، بينما تجاهر بعض تنظيمات الإسلام السياسي الشيعي بتحالفها مع إيران، وتتهم المتظاهرين بتنفيذ مخططات أمريكا والغرب كصفقة القرن والعمل على تهديد القيم الإسلامية للمجتمع العراقي.وفي الوقت نفسه أسهم التدخل الخارجي في تصاعد الأحداث خلال ثورة تشرين، حيث أمعنت بعض الجماعات الموالية لإيران في قمع الحراك الإحتجاجي وكذلك في ضرب بعض المصالح الأميركية في العراق، في حين جندت أميركا منصاتها الإعلامية ونفوذها السياسي والإستخباراتي في محاربة النفوذ الإيراني في العراق وشرعت في هذا السياق بإغتيال قاسم سليماني مع أبو مهدي المهندس في بداية السنة الحالية. وأدّى هذا التصاعد الى إنقسام القوى الوطنية الداعمة للإنتفاضة، فأيّد التيار الصدري بشكل متذبذب القوى الموالية لإيران من أجل إنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق، ما أسهم – من بين عوامل أخرى- في تبدّد زخم الحراك الإحتجاجي وارباك عملية إنجاز إصلاح منظومة الانتخابات النيابية اللازمة للتغيير السياسي المنشود، وبالتالي السماح للنخبة الحاكمة بإستعادة توازنها والتهيؤ للهجوم المعاكس على حركة الإحتجاج .

فتصاعدت الأحداث من خلال سلسلة الاغتيالات لناشطين في المجتمع المدني والتفجيرات في ساحة الحبوبي وما قابلها من ردود الأفعال عبر تجريف مقرات الأحزاب السياسية في الناصرية والدعوة الى تسلح المتظاهرين .

إن هذا الانقسام المجتمعي المصحوب بخطاب كراهية وتخوين لإلغاء الآخر، مع انعدام ثقة متزايد بالعملية السياسية، يشير الى احتمالات الصدام المسلح والنزوع الى إجراءات راديكالية لحسم هذا الصراع، ما يهدد المشروع الوطني لتغيير النظام السياسي الذي تبنته ثورة تشرين ودعمته شرائح عريضة من المجتمع العراقي. وإذا ما أريد لهذا المشروع الوطني أن يعود الى واجهة المشهد السياسي في العراق ويتجدد بدعم غالبية شرائح المجتمع له، فلابد من الوصول الى حل لإشكالية التدخل الأجنبي في العراق.من هذا المنطلق، تحاول هذه المقالة تناول السياق التاريخي لإشكالية السيادة والاستقلال في العراق، ومن ثم طرح مفهوم واقعي لحياد الدولة العراقية كحل لهذه الإشكالية، يمكن أن يعزز من المشروع الوطني لثورة تشرين قبل أن يُختطف من قبل أجندات سياسية ضيقة كما تم إختطاف المشروع الوطني العراقي لثورة 14 تموز من قبل.مقاربة تاريخيةمنذ تأسيس مفهوم العراق الحديث في بداية القرن العشرين، تعامل المجتمع العراقي في سعيه نحو الحرية والاستقلال بأزدواجية تجاه صراع النفوذ الخارجي للسيطرة على بلاده. فاعتبر الدول الغربية كقوى غازية تهدد هويته الإسلامية المشرقية، حيث قاوم أغلبية العراقيون الغزو البريطاني للعراق في 1914 من خلال حركة الجهاد الديني ثم من خلال ثورة العشرين عند إعلان الانتداب البريطاني. وعلى الرغم من إعتماد الدولة العراقية خلال فترة الانتداب على بريطانيا لردع تركيا التي حاولت ضم الموصل إليها وكذلك لردع الوهابيين الذين هددوا المدن الشيعية المقدسة ، غير أن المجتمع العراقي استمّر في مقاومته للهيمنة البريطانية التي سيطرت على مقدرات العراق واستخدمت موقعه الستراتيجي لخدمة جيشها طوال العهد الملكي ، حتى خروج العراق من حلف بغداد والجلاء الكامل للقوات البريطانية بعد ثورة 14 تموز 1958.

أمّا بالنسبة لنفوذ القوى الإقليمية التي تنتمي الى هذا المشرق، ولها إمتدادات دينية وثقافية وقومية في المجتمع العراقي، فكان حل إشكالية هذا النفوذ – كتصاعد المد القومي العربي في العراق – هو عبر المرور بمرحلة صيرورة للوصول الى مشروع وطني يجمع ما بين الوجود الشرعي لهذا النفوذ وبين حماية سيادة واستقلال العراق . فقد تم استيعاب فكرة ارتباط العراق بالأمة العربية – بعد التصادم السياسي بين العراقويين والعروبيين في فترة الثلاثينيات – عبر المشروع الوطني العراقي الذي ساد بعد ثورة 14 تموز والذي جمع ما بين إحترام سيادة وإستقلال العراق وما بين الإتحاد الفيدرالي بين الدول العربية . لكن بعض الأحزاب العروبية إستغلت هذا الوضع لتقديم تنازلات سيادية كبيرة عبر الدعوة الى الوحدة الاندماجية مع الجمهورية العربية المتحدة والتآمر على الجمهورية العراقية الفتية في سبيل التخلص من منافسيها السياسيين، مع مفارقة أن نفس هذه الأحزاب العروبية احتكرت السلطة بعد الإستيلاء عليها، ولم تتنازل عن أي جزء منها حتى في سبيل الوحدة العربية التي ضربت تحت عنوانها منافسيهما بوحشية.

لقد نجح النظام الجمهوري العراقي في المحافظة على استقلال العراق وسيادته في فترة الحرب الباردة ، عبر اعتماده على الاتحاد السوفيتي وعلى دعم متوازن من الغرب ، وكذلك على التكافل بين الدول العربية ، ألا أن هذا الوضع العالمي والإقليمي كان قد تغير عشية غزو نظام صدام حسين للكويت في آب 1990، فاحتلت أمريكا – التي أصبحت عندئذ القوة الأعظم بدون منازع في العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي – أرض العراق ، وفرضت على الدولة العراقية شروط انتهكت سيادتها الوطنية حتى إحتلالها للعراق ثانيةً في 2003 إذ أسقطت نظام صدام حسين، وأسست النظام السياسي العراقي الحالي المبني على المحاصصة المكوناتية.

لقد انعكس انقسام المجتمع العراقي وضعف مؤسسات الدولة وقوة المجاميع المسلحة سلبياً على معنى السيادة والإستقلال في عراق ما بعد 2003. فقوات الاحتلال الاميركي التي غادرت العراق في نهاية 2011 – بموجب اتفاقية الانسحاب مع الحكومة العراقية في 2008 – عادت مرة أخرى في 2014 مع قوات من عشرات الدول الأخرى ضمن التحالف الدولي لمحاربة داعش بدون أي إطار قانوني .

فهي تتمركز الآن على الأرض العراقية، وتقوم – بالإضافة الى دعم الجيش العراقي في ضرب داعش – بمهمات خاصة خارج العراق في الأراضي السورية وضرب المصالح الإيرانية في العراق ومن ضمنها قوات تابعة للحشد الشعبي العراقي . ولم يتم الاعتراض على هذا الوجود منذ 2014 شعبياً أو رسمياً إلا عندما نفذت أمريكا عملية اغتيال سليماني والمهندس حين خرجت تظاهرة “مليونية” بدعم خاص من التيار الصدري وتنظيمات شيعية سياسية أخرى، وأصدر مجلس النواب قراراً غير ملزم دستورياً لإنهاء وجود القوات الأجنبية في العراق.كذلك أصبح تدخل القوى الإقليمية وخاصة تركيا وإيران سافراً في الشأن العراقي منذ 2003 عبر نفوذهما العلني على السياسيين والفصائل المسلحة، وبتصريحاتهما الإعلامية وبتدخلهما العسكري المباشر ضد المتمردين الكرد اللذين لجؤوا الى شمالي العراق وشماله الشرقي.فبعد قرن من الزمان على تأسيس الدولة العراقية الحديثة، عاد العراق الى المربع الأول في حاجته الى ضامن خارجي لصيانة إستقلاله وردع القوى الخارجية عن مهاجمته والتدخل في شؤونه الداخلية . وبينما من غير المعقول أن يعيد العراقيون الخطأ التاريخي بالإعتماد على قوة أجنبية لحماية السيادة العراقية ، تمثل ثورة تشرين فرصة تاريخية للمرور بمرحلة صيرورة أخرى نحو الوصول الى مشروع وطني جديد للحد من النفوذ الأجنبي ، ولحل إشكالية نفوذ الدول الإقليمية وتقاطعها مع سيادة واستقلال العراق.حلول مقترحةفي البداية لابد من إستخلاص دقيق لديناميات الصراع الجيوسياسي عالمياً وإقليمياً قبل تقييم خيارات الحلول المتوفرة لأزمة السيادة العراقية . فالعالم بدأ بالتحول من هيمنة القطب الأميركي الأقوى والأوحد الى بزوغ القطب الصيني المنافس منذ ولاية الرئيس أوباما الذي غيّر تمركز الستراتيجية الأميركية من الشرق الأوسط التي ورثها من بوش الإبن، الى المحيط الهادي لتكون أكثر فعالية في احتواء تسارع نمو المارد الصيني. أما الرئيس ترامب فقد عزز أولويته الستراتيجية ضد الصين، كما سبق له مراراً أن أدان الاحتلال الأميركي للعراق كأسوأ قرار في تاريخ أمريكا، وهو لم يتدخل للضغط على إيران أو في الشأن العراقي إلا كثمن لصفقاته مع السعودية بمئات المليارات من الدولارات.لذلك يمكن الإستخلاص من أن أي خيار للعراق في التحالف مع أمريكا لتعزيز سيادته ضد إيران أو تركيا هو غير واقعي بسبب أن مردوداته لا تستوفي الثمن الباهظ الذي يمكن أن تدفعه أمريكا نتيجة هكذا خيار، بالإضافة الى إشغال أمريكا عن أولويتها في حربها الباردة مع الصين.

أما مشرقياً، فمن الأسلم لجميع القوى الإقليمية أن يكون العراق ساحة للصراع فيما بينهم بعيداً عن بلدانهم، بدلاً من أن يدخلوا في صراع مباشر للدفاع عن دولة عراقية ضعيفة ومفككة متحالفة معهم.يبقى الخيار الأمثل الحالي لحل إشكالية تدخل القوى الخارجية وصراعها على الأرض العراقية هو في توافق أمريكا وتركيا وإيران – بوصفهم القوى الأكثر تدخلاً في الشأن العراقي – على عدم التجاوز على حدود العراق، والتعهد بعدم خرق سيادته عبر القبول بإعلان حيادية العراق . وعلى الرغم مما يبدو من صعوبة توافق هذه القوى الرئيسة على هكذا حل، غير أن التجربة الفنلندية في البقاء على الحياد خلال الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، تشير الى إمكانية الوصول له بالنسبة للحالة العراقية. فالعراق الحيادي يضمن عدم السماح لأي قوة بإستغلال المشهد العراقي ضد مصالح القوى المتوافقة، ما يمكن أنْ يوفر مردوداً معقولاً للقوى المتوافقة لتقبل فكرة الحياد العراقي.

وهذا المفهوم للحياد بالتوافق يختلف جذرياً عن مفهوم الحياد الزائف الذي غالباً ما يتداوله قادة العراق عن عدم سماح الدستور العراقي لأرض العراق أن تكون منطلقاً للإعتداء على أية دولة وابتعاد العراق عن المحاور الإقليمية. فالحياد بالتوافق يكون مبنياً على توقيع اتفاقات صداقة وتعاون مع الدول المعنية عبر حوار ستراتيجي – شبيه بما تقوم به الحكومة العراقية حالياً مع أميركا – معززاً بإلتزام الدولة العراقية بتطبيق بنود هذه الاتفاقات، بينما الحياد الزائف عبارة عن خطاب أحادي من جهات لا تمتلك سيادة حقيقية على أرض العراق.كما إن الحياد بالتوافق ليس بالضرورة حياداً تقليدياً، إذ يمكن أن تتضمن الاتفاقات مع الدول المعنية بنوداً تراعي المخاوف الشرعية لهذه الدول، وأن تكفل حقها في التدخل المشروط إذا لم يفِ العراق بالتزاماته. فعلى سبيل المثال تضمّن الاتفاق بين فنلندا والاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية – والذي ظل سارياً لحين سقوط الاتحاد السوفيتي – شرط مقاومة فنلندا لأي اختراق عسكري من الحلفاء لأرضها مع احتمالية السماح للاتحاد السوفيتي بالتدخل العسكري أيضاً.وعلى الرغم من أن الطريق نحو إنجاز تحول الدولة العراقية من الحياد الإفتراضي (الزائف) الى الحياد الواقعي (بالتوافق) غير معبد بسبب أن بعض مصالح الدول الثلاث متعارضة في الشأن العراقي، والتوصل معهم إلى إتفاقات تحافظ على سيادة العراق وإستقلاله ليس سهلاً، إلا أن تبّني مثل هذا المشروع الوطني من قبل حركة الإحتجاج وبدعم من شريحة واسعة من المجتمع العراقي وفعالياته المدنية وقواه السياسية يمكن أن يسهل من هذا الأمر.فحياد العراق – إذا كان مدعوماً بتوافق الدول الثلاث وبحكومة عراقية سيادية وفاعلة – يمكن أن يكون خياراً وسطياً يجمع حوله القوى السياسية العراقية المعارضة لنظام المحاصصة، ويخلق إجماعاً وطنياً يستطيع أن يهمّش القوى ذات الولاء الخارجي، وبنفس الوقت أن يضغط على القوى الخارجية – الأجنبية و الإقليمية على حد سواء – لتقبل حياد العراق على الأقل كمفهوم مؤسس للإتفاقات بينها وبين الدولة العراقية.كما أن هذا المشروع الوطني يمكن أن يكون خياراً بديلاً وواقعياً للتقاتل الداخلي الحالي، وما يصاحبه من خطابات الاستقطاب والتخوين التي تتاجر بسيادة واستقلال العراق بدون طرح رؤية واقعية لمعالجة هذه الإشكالية المزمنة. إن الارباك وخلط الأوراق في المشهد السياسي العراقي الحالي يصب في النهاية لصالح أحزاب النخبة الحاكمة، في حين أن تبني مشروع واقعي لحياد العراق يمكن أن يعمل على فرز المواقف بين المؤيدين لمشروع وطني سيادي وبين المتاجرين بسيادة وإستقلال العراق لخدمة أهدافهم الضيقة. وبنفس الوقت يفتح باب الحوار الوطني للاتفاق حول تفاصيل هذا المشروع، وقطع الطريق على الأحزاب السياسية التي تسعى لمصادرة الحوار مع الدول الخارجية لمصلحتها الخاصة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى