مقالات

رسالة الى أمي

رسالة الى أمي – منقذ داغر

أعوام مضت ولم أقبلكِ..سنون عدّت ولم أشتري لك هدية عيد الأم..سنون كالدهر مضت ولم أرَ تلك العينين اللتان تزوداني بحنانٍ وحبٍ هما وقود حياتي.

أعوامٌ ثمانية شخت فيها، بل هرمتُ حينما لم أجد حضناً يحتويني كالطفل مثل حضنك الحنون ولا قلباً كقلبكِ الرؤوم.. رباه،كم أفتقد (يمّه)…ماما..(يوم)..وليدي..حبيبي .

كم أفتقدها من فمك المعطر بالحب والعبير والورد.

كنت أقول (يمّه…يوم) دون أن أحس كم هي غالية وحبيبة هذه الكلمات،ودون أن أتوقع أنه سيأتي يوم أفتقدها لهذا الحد فأرددها مع نفسي يومياً كي أتحسس ذكراكِ وأعيشُ في صداكِ. (يمه) حينما مات أبي كنتُ شاباً في الثلاثينات فحزنت كثيراً لكني أرتميت في حضنك فشعرتُ أن لي ظهراً،وسنداً،وحباً ،وقلباً يعيناني في حياتي..لكن حينما رحلتِ عني شختُ كما تشيخ النخيل،وأفتقدت شذى أنفاسك على وجهي كذاك النسيم العليل.

ذهبتِ دون أن تفسري لي جبروتك وأنت تصحين كل فجر فتحلبين البقر،وتخبزين الخبز وتهيأين الفطور لسبعة أولاد وبنت ثم تحضَرين لنا الطعام الذي نأخذه للمدرسة ثم تودّعينا بثغرٍ باسمٍ كالهلال،وفخرٍ بعلو كل الجبال ونحن ذاهبون لمدارسنا.

لا أذكر أن أحداً منا تأخر عن جرس المدرسة ولا أفتقد روحك المقدسة.

سألتكِ مراراً كيف كنت تستطيعين فعل كل ذلك في ساعتين من الزمن؟ كيف كان جسمك يتحمل كل هذا العبء دون أن يكل من العمل أو يسري فيه الملل؟! ما هو سر صبركِ على كل تلك الشدائد التي واجهتنا ،والمصائب التي أمتحنتنا؟ ما سر هذا الخليط العجيب من سلوكٍ جاد ،وحنان باد،وأنضباطٍ حاد؟! نعم،قلتِ لي أنه الحب،هو من كان يعينني والأمل هو من كان يحركني،لكن أي حبٍ هذا الذي يفعل كل تلك الأعاجيب،أو يتحمل كل ذاك النصيب؟! أي حبٍ هذا الذي يكبر ولا يشيخ، ويعلو ولا ينيخ؟!

تحملتِ آلام الولادة تسعاً ولم تشتكي، وقاسيت ضنك الحياة ولم تضنكي.

لم أدرك ما يعنيه ألم الولادة الى أن رُزقت بأطفال،ولا تعب التربية ومشقة المسؤولية الا حينما أختبرت حجم ذاك التعب ومقدار تلك المسؤولية. كنتُ أقول لك لقد أتعبني الأولاد بشقاوتهم فتقولي” ياريت يبقون صغار فكلما يكبرون يكبر همّهم يمه”.

لم أدرك ما يعني ذلك حتى كبروا الأولاد وتشتتوا في البلاد فعرفتُ كم قاسيتِ من أبتعادنا عنك.

لم أعلم كم كنت تقاسين وأنت تودعيني وأنا ذاهب لجبهة القتال، حتى عرفت مقدار قلقي على أولادي وهم يودعونني للسفر.

وشتان بين قتالٍ يطحن وسفرٍ يؤنس. لم أدرك كم كان يسرّك رؤيتي وأبنائي حولك في يوم العيد حتى صارت غرف أولادي تأنّ من الهجران،وسمعتُ صرير بيبانهم وهي تشكو قلة الأستخدام.

لم أدرك كم سببنا لكِ من آلامٍ حين تودعينا،وحين تفتقدينا،وحين نلوذ بحياتنا عن أهلينا! لم أشعر بآمالك حين تَرينا وأفراحك حين تحضنينا وآلامك حين تودعينا. لمتكِ لأصرارك على زواجي وأنا شاب يافع ،ولم أدرك ما يعنيه زواج الأبناء حتى أختبرته.

لم أشعر بمقدار حبكِ لأبنائي وسر”أفسادهم”بالدلال والحنان، الا حينما أصبحتُ جدا وصار لي أحفاد.

أعلم أن كل الأمهات تحب أولادها،لكني لست متأكداً أن كان حبهم يفوق حبكِ.

مؤكدٌ أن كل الأمهات عانت من أولادها،لكني لست متأكداً أن أحداهن عانت كما عانيت. أعرف أن كل الأبناء يحبون أمهاتهم لكني لا أعلم أن كان أحدهم يشعر بما أشعر به الآن.

أنا آسف يا أمي لكل لحظةٍ أزعجتك فيها،وكل كلمةٍ أشقيتك بها وكل فعلةٍ أغضبتك منها. أنا آسف لكل لحظةٍ لم أحضنكِ فيها وأقول لك كم أحبك وكم أفتقدك وكم أشتاق فيها لكلمة”يمّه”.

أنا آسف لكل يومٍ لم أقضيه معك،ولكل ساعة لم أجلس معك ولكل لحظةٍ لم أقضها معك. أشعر بالحسرة لأني لم أشم عطركٍ الجميل،ولم أقبل جبينك قبل الرحيل. فلترقدي بسلامٍ أيتها الحبيبة الحبية،ولتطمأني أيتها الطيبه.

لم أنس وصاياك، ولم أفعل الا ما يرضيكٍ أنت وأبي.

ما زال الوطن همي وحب الناس ديني ورضاكِ قبلتي ويقيني.

أدعو لكٍ في كل صلاة وأتذكرك في كل موقف وأتمنى أن يجمعني الله بك انت وأبي وأنتما راضيان عني، وفخوران بي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى