مقالات

سنة بقاء التحديات والأزمات أم التعافي ؟

لويس إقليمس

طوى العالم سنة 2022 بعد مخاض عسيرٍ شهدت فيه عدد من الدول والشعوب مرارة الحياة وشظف العيش وصراعًا حادًا لمواجهة تحديات كثيرة. كما وقفت بلدانٌ أخرى في مواجهة حروب مدمّرة وما أتته من دمارٍ وخرابٍ شاملين ليس في بناها التحتية المادية والاقتصادية فحسب بل في تعشيقتها الاجتماعية والأخلاقية والتربوية والعلمية.

هناك دولٌ ومجتمعات متحضرة منفتحة لواقع الحياة وما فيه من مغريات وتحديات قد استفادت من دروس السنوات الماضية وحصّنت وضعها بمزيد من التحوطات على جميع الأصعدة وفق استراتيجيات مدروسة وتخطيط ملمّ بما واجهته إزاء بعض تلك التحديات. وبعكسها دولٌ أو بالأحرى إداراتٌ فاشلة أخرى لم ترقى إلى مستوى التحديات التي واجهتها، فسقطت في حبائل الفشل الإداري والسياسي والاقتصادي والخدمي، ما وضعها في خانة الفاشلين، بل الفاسدين في الإدارة. فإدارة أية مؤسسة أو بيتٍ أو منظومة أو دولة، لا تأخذ في نظر الاعتبار دراسة وقائع الماضي والحاضر، لن تكون قادرة على استشراف المستقبل بعيون مفتوحة وآذانٍ صاغية وعقولٍ حكيمة قادرة على مواجهة المصاعب والمشاكل وقهر التحديات. فالتخطيط سيّدُ النجاح في أية إدارة، صغيرة كانت أم كبيرة.واقع التحدياتقد تكون هذه المقدمة الإنشائية مملّة في تقييم واقع التحديات التي تواجه دولاً كثيرة في عالم الأمس واليوم. لكنها في عمق ما تعانيه وتطالب به شعوبُها من أجل التعافي من الواقع المزري والتخلّص من الإدارات الفاسدة والفاشلة بغية الانتقال للأفضل بعد استخلاص الدروس والعبر من كلّ صغيرةٍ أو كبيرة. وهذه حالُ بلدنا وسواه من دول العالم الحالمة بحصول تغيّرات وتحولات في الواقع والاستراتيجيات على المدى المنظور والطويل. ويمكن تلمّس بدايات شكل هذه التحوّلات العالمية في السياسة العامة لبعض البلدان من خلال بروز اليمين والمحافظ، والمتطرّف منه خاصة، في بعض الدول إلى الواجهة السياسية كما حصل في إيطاليا التي تقدّمَ فيها هذا التيار أكثر من غيرها في دول الاتحاد الأوربي بحيث تمكن من حصاد تأييدٍ واضح في غيرها من دول الاتحاد عبر تنامي مؤيدي هذا الجناح في إدارات هذه الدول. فالشعوب الحية والناجحة منها تلجأ إلى التخطيط والتدبير والإصلاح والتغيير، فيما غيرها يبقى مرابضًا صامتًا كالأخرس في الزفة، كما يقال، في انتظار القدَر أو الحظ الذي يكون عاثرًا في غالب الأوقات. أمّا مَن يلجأُ إلى العرّافين لمعرفة مصيره ورسم صورة لمستقبله بهدف وضع الخطط والخطوات لأجل بلوغ شكل هذا التعافي أو التغيير أو بغية الخروج من الأزمات والمشاكل بهذه الشاكلة فهو مخطئ وفاشل في جميع المقاسات.

فمهما قال المنجمون ولو أصابوا في جزئياتٍ من تنبؤاتهم، فالكذب حليفهم. ويبقى العقل والحكمة والإدارة الجيدة سيد المواقف جميعًا. فالباري تعالي خلق البشر بعقول وأدمغة مستوفية الشروط لعيش حياة طبيعية تساهم في تنمية الموارد والقابليات والسلوكيات نحو الأفضل في الحياة اليومية.صحيحٌ أن عالم اليوم يعيش عصرَ قدرات متفاوتة ومتضاربة في تقدير الحسابات والتصورات التي تعصف بالمجتمعات البشرية جميعًا.

فلو نظرنا إلى خارطة العالم، لتيقنّا من معاناة جميع البلدان والمجتمعات، حتى المتمدنة والمتقدمة فيها، من أعاصير وعواصف تضرب السياسة والاقتصاد والمال والبنى التحتية بما فيها الأدبية والثقافية والخدمية والتربوية والعلمية. وفي هذه أمثلة عديدة قد خذلت دولاً ومناطق كانت خارج حسابات الأزمات أخلاقيًا وأدبيًا واقتصاديًا وحتى أمنيًا. فما حصل من مواجهة وأزمات صادمة لمجموعة الدول الأوربية والغربية مؤخرًا بسبب اندلاع أشرس حربٍ مناطقية بين دولتين جارتين، سواءً كان هذا بإرادتها أو بغيرها، قد أشاع حالة من الإرباك في الخطط ووسائل المواجهة والمعالجة ومن ثمّ في تحمّل النتائج المترتبة.

لقد فرض الواقع حالَه ورؤيتَه وقرارَه بسبب شدّة التحديات وشراسة المواقف والخوف من المجهول.

ففي حين ترى جهاتٌ دولية في تورّط الغرب وبالتحديد دول الاتحاد الأوربي مدعومة بمنظومة حلف شمال الأطلسي بحربٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل بسبب أوكرانيا، سوى الحلم بتوسعة دول الحلف ليقف ندًّا عنيدًا للدبّ الروسي المتنامي على حساب دول كانت بالأمس تشكلُ جزءً من عماده الأمني والقومي، يرى غيرهم فيها دفاعا عن حرية البلدان والشعوب بوجه الطغيان الروسي الذي يمثله “بوتين” ابنُ وعميلُ الجهاز المخابراتي العنيد “كي جي في “، وما يمكن أن يتركه من بصمات سلبية في حالة تمدّد الحلم السوفيتي السابق عند التفكير ببعثه وإنهاضه من جديد. ولا تعليق على ذلك، لاسيّما بعد تشكيل أشبه ما يكون بجبهة غربية، “أمريكية-أوربية” لمواجهة روسيا والحث على التنديد بفعلتها التدميرية ضدّ بلدٍ مستقل وشعبٍ يسعى للتحرّر من قيود إدارة الماضي الاشتراكي-الشيوعي المدمّر للإنسان في الفكر والعقل والحرية وكلّ شيء. وقد يفتح التصريح الأخير للقيادة الروسية باستعدادها القتالي من خلال تحسين “الثالوث النووي” الذي تعتدّ به ضمانةً لبقائها ومستقبلها الوجودي كقوة عظمى، عشرات الأبواب والتأويلات لما يضمرُه رئيسُها بعد اشتداد القتال وتصلّب الطرفين المتحاربين في مواقفهما من غير بروز أملٍ قريب بالتلويح بالجلوس على طاولة المفاوضات. وهذا ما يستشفه المراقبون بعد الزيارة الأخيرة للرئيس الأوكراني إلى أميركا ولقائه رئيسها الذي أكّد له مواصلة الدعم والرعاية اللوجستية بأسلحة متطورة جديدة لإطالة أمد الحرب، ما يضمن لبلاده استمرار القتال في ضوء الدعم الغربي المتكاتف.

هل أوربا والعالم في مأزق؟تقف أوربا اليوم بعد مرور أكثر من عشرة أشهر على الحرب الروسية-الأوكرانية المدمّرة في مخاضٍ عسير واقفة عند نقطة تحوّل حساسة، ليس في بيئتها السياسية والاقتصادية والمالية والنقدية فحسب، بل بدأت تحدياتها في ازدياد في مواجهة المستقبل الذي أصبح على المحكّ. فضراوة الوضع المتردّي في كلّ شيء وما تطلّبه ذلك من إجراءات تحفظية وتحوّطات للقادم السيّء في نظر البعض، بدأ يلوح في الأفاق بشكلٍ تهديد مصيريّ لهذه القدرات، ومنها العسكرية التي لم تتهيّأ لها بالشكل الذي كان يُفترض أن تكون عليه في الجانب العسكري والأمني.رؤية غربيةفما كان بالأمس يشكل جزءً من سمات الرؤية الغربية في السلوك السياسي العام في “المرونة والقوة والأداء”، قد أصبح اليوم يشكلُ شيئًا كثيرًا من الإحباط العام بعد أن طالت الحرب واستنزفت الموارد والاحتياطات والمخزونات، واضطرّت معظم دولها لاتخاذ إجراءات تقشفية ظهرت نتائجُها السلبية على شعوبها، ولاسيّما إزاء مسألة مواجهة أزمة الطاقة التي حصرتها فيها روسيا المُنعِمة عليها بغازها الطبيعي الذي اعتمدت على تجهيزه منها بصورة أساسية وفق منظور استراتيجي والذي بدأ البعض يشكّ في مفعوله وتوقيته. أي بصورة المنطق، يمكن القول أنّ أوربا اليوم، في مواجهة حقيقية لتحديات وجودية تعيد إلى الأذهان ما شهدته في ثان حربٍ عالمية عندما لحق بها الدمار الشامل وتكاتفت لتجاوزه بقدراتها لمواجهة تلك التحديات الصعبة.من هنا وانطلاقًا من القدرة على الإيفاء بهذه التحديات الثلاث في أعلاه، سيتعين على أوربا بحسب مفكرين وقادة إثباتَ قدراتهم على حقيقةٍ واجبة التحقيق، أي الانتصار الحتمي الحاسم على الدب الروسي وكبح جماح أحلام رئيسها المغمور المتمثل برجلها القويّ الشرس “بوتين”، الذي لا يعرف سبيل التنازل أو الاستسلام بل يزيد من مغامراته التي ليس لها نهاية أو حدود. لكنه مع كلّ هذا وذاك يخافهم أيضًا بسبب قدراتهم الكبيرة قابلة النهوض، تمامًا كما حصل لهم عقب الحرب العالمية الثانية.

لكنه مخطئ فيما ذهب ويذهبُ إليه بسعيه لجرّهم إلى حربٍ مفتوحة بغية خلط الأوراق وتشابك الأحداث للخروج من النفق الذي أقحم فيه بلادَه والمنطقة بمبررات وهمية خارج حسابات التعايش السلمي إلاّ من منطق فرض الإرادات وإحياء الأحلام النرجسية التي عفا عليها الزمن. فأوروبا لن تغامر بدخول الحرب المباشرة مع روسيا لقناعتها بعدم جدوى التورط بها، طالما هناك مَن يدير استراتيجيتها من موقع أقوى متمثلة بقدرات الحليف الأمريكي الذي لن يسمح لندّه السابق أيام الحرب الباردة أن يتجاوز حدوده.

فما تسعى إليه أمريكا ومعها الاتحاد الأوروبي لا يعدو كونه لعبةً لإضعاف قدراتِ الدبّ الروسي وزيادة النقمة الدولية ضدّه وضدّ مَن تحالف معه من دول مارقة في نظر الإدارة الأمريكية.

يمكننا القول بحفاظ دول الاتحاد الأوروبي لغاية الساعة على وحدتهم في مسألة توحيد المواقف إزاء الاعتداء الروسي ضدّ دولة مستقلة تسعى لدخول هذه المنظومة الدولية القوية.

ومنها نجاحُ إدارات دولها مع حليفتهم الولايات المتحدة بفرض عقوبات صارمة على روسيا من أجل عزل الأخيرة عن المجتمع الدولي وسعيهم الجديد في مسألة حصر وتسقيف سعر الغاز الطبيعي الروسي الذي عارضته بعض الدول العربية ومنها الجزائر التي رأت بضرورة بقاء أسواق الطاقة حرة من أجل مواصلة الإنجازات والاستثمارات في المنبع بحسب وزير طاقتها.

وبالرغم من عدم نجاحهم في هذا تمامًا بسبب ضعف تأثير شكل هذه العقوبات على الواقع المالي والاقتصادي، إلاّ أنّ إقرارَها كانت له فوائدُه وأثمرت عن تحقيق مكاسب للحليف الأوكراني على حساب التقدّم العسكري والأمني الذي نجحت به روسيا في بداية الصراع.

ولأجل تحقيق هذه الغاية، لا بدّ من استمرار ذات النهج في الصمود برغم قساوة نتائجه ومفاعيله على دولها وشعوبها.

فهذا هو الطريق الأسلم لبلوغ هدف النصر في نهاية المطاف والوصول إلى الضوء الأخضر للسلام والاستقرار في المنطقة التي تغلي على صفيحٍ ساخن من نيران متعددة الأضرار والتحديات.

ومادامت أوربا ودولها متحدة ومحافظة على سلوكها الحكيم بعدم الانجرار والتورط المباشر بالحرب الضروس، ستكون بالنتيجة قادرة على الإمساك بقدراتها الرائدة في شكل التكنلوجيا والقدرات البشرية والموارد الأساسية والمجتمعات المدنية وبالأخص في قوانينها الأكثر مرونة لصالح الإنسان والبشرية وحقوق المواطنة ومنها حقوق الإنسان التي تحمل راياتها بقوة لا تضاهيها غيـــرُها من الدول والشعوب.

فما يعوزها وينقصها في ضوء الحرب القائمة، هي قدرتُها على تقديم استراتيجية طموحة لم تحسب لها حسابًا، لاسيّما من منظور لوجستي عسكري في بناء القدرات التي اعترف ساستُها علنًا بشيءٍ من خيبة الأمل في عدم إيلاء هذا الجانب ما كان يتطلبُه من تخصيصات وتمويلات للإبقاء على كامل الجهوزية حين الحاجة.

وهذا الأخير يشكلُ خللاً في البنية الكلّية لدول الاتحاد لأسباب عديدة، منها اليقين بنظرة الحياد الإيجابي الذي اتسمت به بعض دول الاتحاد تاريخيًا ولم تعرهُ أهمية أولوية في سياساتها العامة نظرًا لاعتقاد قادتها بزوال خطر الحروب على حدودها بعد نتائج الحروب العالمية المدمّرة والحرب الباردة، أو بسبب ضعف جهوزية مجتمعاتها المسالمة التي اعتمدت واتكلت على غيرها في الدفاع عنها حين الساعة عندما يحدق بها الخطر، كما يحصل اليوم عندما بلغت مخاطر الحرب الروسية إلى حدود بعضها وبدأت تشعر بالخوف والشك والريبة من المصير في مستقبلها.إزاء كلّ هذه الشكوك والمخاطر والتهديدات المحتملة على الأبواب، بدت علامات التفكير بضرورة تعزيز القدرات العسكرية لدول الاتحاد الأوروبي ضمانًا للسلام وبهدف التهيّؤ للدفاع عن النفس والحدود حين تقترب المخاطر وبحثًا عن الأمن والاستقرار.وهذا يتطلب زيادة في التعاون بين دول الاتحاد دون إحداث أية ثغرة في صفوفها.

وهو الكفيل حتمًا بتقوية الاقتصاد وزيادة القدرات التنموية في قطاعات الصناعة والزراعة والتجارة والبيئة والتكنلوجيا المتطورة التي تلبي متطلبات الساعة.

وبالتأكيد، سيشكل هذا التعزيز في القدرات أوجه التضامن في مجتمعاتها المتماسكة المتفقة على وحدة الصف وحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان في مجتمعاتها.وهذا ما تحتاجه في سياساتها الواقعية بالتكيّف مع متطلبات الواقع الجديد على الخارطة السياسية الحالية التي تعتمد على نهج أكثر اعتدالاً في استراتيجياتها ونظرتها إلى الواقع السياسي والديمغرافي كي تشهد حقبة جديدة بالبقاء قوية وقادرة على مواجهة التحديات القائمة والمستجدّة.وبالتأكيد، ستضع بلدان الاتحاد كل هذه الرؤى والمفاهيم التي اكتسبتها من واقع اليوم في نظرها ورؤيتها كي يدوم بريقُها وتشهد سيلاً من التغيرات والتحوّلات والإصلاحات الجذرية، وإلاّ ستقع في مزالق يصعب النجاة والتعافي منها على المدى القريب والبعيد.وفي كلّ الأحوال، ليس بعيدًا أن يشهد العام الجديد 2023 شيئًا من التحوّلات والتغيرات في المنهج والسلوك ومعالجة الأزمات، ليس في منطقة دول الاتحاد الأوربي كما متوقع فحسب، بل في مناطق أخرى من العالم، ومنها منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي وما يجاورها. فالسياسة تبقى فنّ المستحيل ولا تحكمها غير المصالح.

وإنّ غدًا لناظره قريب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى