مقالات

فائض الديمقراطية

محمد زكي ابراهيـم

في الصدر الأول من الإسلام تعرف الناس لأول مرة على ملذات الحياة، وبدأوا يتذوقون طعم الرفاهية وأدركوا أن الدين الجديد لا يعني الحرمان من متع الدنيا، بل هو دعوة للتوازن والاعتدال، فلا إفراط ولا تفريط وأن الفوز في الآخرة مرهون بالسلوك العقلاني، القائم على احترام الذات، وفهم حاجات الغير.ولم يفتهم أن الانقطاع عن الدنيا ليس من ضرورات الدين، ولا من أولويات العقيدة، لأن المشرع الإسلامي لم يغفل أن المال عصب الحياة، ولا بد لنشر الفكرة الجديدة، من بذله.في عقد التسعينات من القرن الماضي حدث أن اتجه الناس في العراق للدين، وشغفوا بالاستماع إلى رجالاته وأخذوا يزنون كل شئ بميزان الحلال والحرام وكان لمراجع الدين القول الفصل في كل قضية ورأي وسبب ذلك ما انتشر في البلاد من فقر وجوع وحاجة، عدا عن جور الحاكم وبطشه رغم الإرهاصات القليلة التي دفعت المجتمع إلى محاولة اكتشاف وسائل جديدة للعيش. وحينما تغير شكل النظام في ما بعد، كان من الطبيعي أن يتقلد السلطة رجال عرفوا بنزعتهم الدينية، أو انتمائهم للحوزة، أوقيادتهم للأحزاب الإسلامية، ومثل هذه الحال النادرة لم تحدث إلا في ظروف خاصة، كتلك التي رافقت الثورة الإيرانية (1978 – 1979).فالإسلاميون كانوا هم الأعلى صوتاً لدى الشيعة والسنة وبعض الأكراد، وكان من تحصيل الحاصل أن تؤول إليهم السلطة، وكان يمكن لمثل هذه القوى أن تشرع في تنمية حقيقية في البلاد، وترسي أسس حضارة جديدة شبيهة بما حصل في بلدان إسلامية أخرى لكن الواقع أن الشرط الحقيقي لقيام الحضارة لم يكن متوفراً، وهوالاستقرار الأمني.فقد خرجت من رحم التيار الديني قوى متطرفة قلبت المعادلة، وحرمت البلاد من نعمة التقدم، وكان ذلك حينما قاد السلفيون حرباً مفتوحة على المجتمع والسلطة استمرت أربع سنوات كما تزعم الصدريون الشيعة محاولات عدة لإرباك الوضع العام، بدعوى مقاومة الاحتلال. وبهزيمة هذه القوى عام 2008 سادت حقبة من الهدوء النسبي، رافقتها إنجازات اقتصادية كبرى، كان على رأسها رفع معدلات تصدير النفط الخام ثلاثة أضعاف، كما بدأت خطوات جدية لتطوير منظومة الطاقة. إن الانقسام الفئوي الشديد الذي عززه دستور كتب على النمط الغربي، وصوت له أناس متحمسون للتغيير، كان القنبلة الموقوتة التي سرعان ما أوقفت بوادر هذه النهضة، وأعادت عقارب الساعة إلى الوراء.وقد برزت نزعة الانفصال عند الكرد، التي غذتها حوادث ما بعد عام 1991، وتعاظم الميل الشديد للسلفية لدى السنة، مع تواطؤ بعض صغار رجال الدين الشيعة مما أدى إلى توتر الوضع الأمني، واندلاع ما أطلق عليه في حينه ساحات الاعتصام في المناطق الغربية، كالفلوجة والرمادي والموصل وسامراء والحويجة. ولم يكن بوسع السلطة التي حاولت الالتزام بالمعايير الدولية أن تجهز على هذه الساحات، باستثناء الأخيرة، التي كانت تجربة نوعية ولم تكن لدى السلطة قدرات عسكرية كافية لقطع الإمدادات القادمة إليها من شرق سوريا فكان أن تمخضت عن حملة سلفية جديدة أطبقت على المحافظات الغربية, ودخلت البلاد مرة أخرى في مرحلة عدم الاستقرار. لقد كشفت هذه التطورات أن من المحال أن تساس البلاد على الطريقة الغربية، وأن الوقت مازال مبكراً بالنسبة للعراق للانتقال إلى وضع فائض الديمقراطية، أو الحكم الشعبي الذي يدار بطريقة سلسة ولا شك إن ضبط إيقاع الحكم التمثيلي هو الإجراء الذي لا بد أن تتخذه دولة من دول العالم الفقير مثل العراق، لتسوية النزاعات الداخلية وبناء جهاز حكومي قوي قادر على إطلاق عملية تنمية حقيقية.ولأن مثل هذا الفعل لم يجر على أرض الواقع، فسيكون من المبكر الحكم على نجاح التجربة الجديدة في العراق الآن!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى