السياسيةslide

كلمة البابا فرنسيس في اللقاء بين الأديان في أور التاريخية

القى الحبر الاعظم بابا الفاتيكان “فرنسيس” خطاباً في مدينة اور التاريخية اثناء مراسم الحج الكبير وقال البابا في كلمته:

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

هذا المكان المبارك هو مكان الأصول والينابيع، هنا بدأ عمل الله وولدت دياناتنا. وهنا، حيث عاش أبونا ابراهيم، يبدو وكأننا نعود إلى بيتنا. هنا سمع ابراهيم دعوة الله، ومن هنا انطلق في رحلة غيرت التاريخ. ونحن ثمرة تلك الدعوة وتلك الرحلة. قال الله لإبراهيم: انظر إلى السماء وأحص النجوم . في تلك النجوم رأى ابراهيم وعد نسله، لقد رآنا نحن. واليوم، نحن اليهود والمسيحيين والمسلمين، مع إخوتنا وأخواتنا من الديانات الأخرى، نكرم أبانا ابراهيم ونعمل مثله: ننظر إلى السماء ونسير على الأرض.

  1. ننظر إلى السماء. نشاهد السماء نفسها بعد آلاف السنين، ونرى النجوم نفسها. إنها تضيء أحلك الليالي لأنها تضيء معا. وبذلك، تعطينا السماء رسالة الاتحاد: يدعونا الإله العلي، من فوق، إلى عدم الانفصال أبدا عن الأخ المقيم إلى جانبنا. الله المتعالي من فوق، يدفعنا نحو أخينا المختلف عنا. فإذا أردنا أن نحافظ على الأخوة بيننا، لا يمكننا أن نحول نظرنا عن السماء. نحن، نسل ابراهيم وممثلي الديانات المختلفة، نشعر قبل كل شيء أننا نحمل هذه المسؤولية: أن نساعد إخوتنا وأخواتنا ليرفعوا نظرهم وصلاتهم إلى السماء. جميعنا في حاجة إلى ذلك، لأننا وحدنا لا نكفي أنفسنا. الإنسان ليس كلي القدرة، ولا يقدر أن يعيش وحده. إذا أبعد الله عن حياته، انتهى به الأمر إلى عبادة الأمور الأرضية. لكن خيرات العالم، التي تجعل الكثيرين ينسون الله والآخرين، ليست هي سبب رحلتنا على الأرض. إننا نرفع أعيننا إلى السماء لنرتفع فوق دنيا الأباطيل، ونخدم الله لنخرج من عبودية الأنا، لأن الله يدفعنا إلى المحبة. هذا هو التدين الحقيقي: أن نعبد الله وأن نحب القريب. في عالم اليوم، الذي غالبا ما ينسى الله العلي أو يقدم صورة مشوهة عنه تعالى، فإن المؤمنين مدعوون ليشهدوا لصلاحه، وليبينوا أبوته بأن يكونوا هم إخوة فيما بينهم.

من هذا المكان ينبوع الإيمان، من أرض أبينا ابراهيم، نؤكد أن الله رحيم، وأن أكبر إساءة وتجديف هي أن ندنس اسمه القدوس بكراهية إخوتنا. لا يصدر العداء والتطرف والعنف من نفس متدينة: بل هذه كلها خيانة للدين. ونحن المؤمنين، لا نقدر أن نصمت عندما يسيء الإرهاب إلى الدين. بل واجب علينا إزالة سوء الفهم. لا نسمح لنور السماء أن تغطيه غيوم الكراهية! كانت كثيفة، فوق هذا البلد، غيوم الإرهاب والحرب والعنف المظلمة. وعانت منها جميع الجماعات العرقية والدينية. أود أن أذكر بصورة خاصة اليزيديين الذين بكوا لمقتل الكثيرين منهم، وشاهدوا ألوف النساء والفتيات والأطفال يخطفون ويباعون كعبيد، وقد أخضعوا للعنف الجسدي والارتداد الديني الإجباري. نصلي اليوم من أجل الذين تحملوا هذه الآلام، والذين ما زالوا في عداد المفقودين والمخطوفين حتى يعودوا إلى بيوتهم قريبا. ونصلي من أجل احترام حرية الضمير والحرية الدينية والاعتراف بها في كل مكان: إنها حقوق أساسية، لأنها تجعل الإنسان حرا للتأمل في السماء التي خلق لها.

عندما اجتاح الإرهاب شمال هذا البلد الحبيب، دمر بوحشية جزءا من تراثه الديني الثمين، بما في ذلك الكنائس والأديرة ودور العبادة لمختلف الجماعات. ولكن حتى في تلك اللحظات الحالكة، كانت النجوم تتألق. أفكر في الشباب المسلمين المتطوعين في الموصل، الذين ساعدوا في إعادة ترميم الكنائس والأديرة، وبنوا صداقات أخوية على أنقاض الكراهية، وأفكر في المسيحيين والمسلمين الذين يرممون اليوم معا المساجد والكنائس. كلمنا الأستاذ علي ثجيل عن عودة الحجاج إلى هذه المدينة. الحج إلى الأماكن المقدسة أمر مهم: إنها أجمل علامة للحنين إلى السماء ونحن على الأرض. لذلك حب الأماكن المقدسة، والمحافظة عليها، ضرورة وجودية، متذكرين أبانا ابراهيم، الذي أقام في أماكن مختلفة مذابح لله متجهة إلى السماء (را. تك 12، 7 .8؛ 13، 18؛ 22، 9). ليساعدنا أبونا ابراهيم أن نجعل الأماكن المقدسة، لكل واحد منا، واحة سلام ومكان لقاء للجميع! فهو، بأمانته لله، صار بركة لجميع الشعوب (را. تك 12، 3). وليكن وجودنا هنا اليوم على خطاه علامة بركة ورجاء للعراق، والشرق الأوسط، والعالم أجمع. السماء لا تتعب من الأرض: الله يحب كل أبنائه وكل الشعوب. ونحن أيضا، لا نتعب أبدا من النظر إلى السماء، ومن النظر إلى هذه النجوم، التي نظرت ورأت أبانا ابراهيم في زمنه.

  1. نسير على الأرض. النظر إلى السماء لم يبعد عيني ابراهيم عن الأرض، بل شجعه ليسير على الأرض، وأن يشرع في رحلة، شملت من خلال نسله، كل زمان ومكان. ولكن، كل شيء بدأ هنا، من هنا، أخرجه الله “من أور” (را. تك 15، 7). كانت مسيرته مسيرة خروج، وفيها تضحيات: كان عليه أن يترك الأرض والبيت والأقرباء. ولكن، بالتخلي عن عائلته، صار أبا لعائلة شعوب كثيرة. يحدث شيء مشابه لنا أيضا: في مسيرتنا، نحن أيضا مدعوون أن نترك روابط وعلاقات تغلق علينا في مجموعاتنا، فتمنعنا من أن نرحب بمحبة الله اللامحدودة، وأن نرى في الآخرين إخوة. نعم، نحن بحاجة إلى أن نخرج من أنفسنا، لأننا نحتاج بعضنا لبعض. لقد جعلتنا الجائحة نفهم أن “لا أحد يخلص وحده” (رسالة بابوية العامة، Fratelli tutti، 54). ومع ذلك، تعاودنا دائما التجربة، لنضع المسافات بيننا وبين الآخرين. والمبدأ “لينج كل واحد بنفسه”، يصبح عاجلا: “الجميع ضد الجميع”، وذلك أسوأ من الجائحة (را. نفس المرجع، 36). في العواصف التي نمر بها، لن تخلصنا عزلتنا، ولن يخلصنا السباق إلى التسلح وبناء الجدران. ذلك يزيدنا بعدا بعضنا عن بعض، ويزيدنا غضبا وكراهية. ولن تخلصنا عبادة المال، التي تغلقنا على أنفسنا وتوقعنا في هوة عميقة من عدم المساواة تغرق فيها البشرية. ولن يخلصنا الاستهلاك الذي يخدر الذهن ويشل القلب.

الطريق الذي تشير إليه السماء لنسير فيه هو طريق آخر. إنه طريق السلام. ويطلب منا، خاصة في العاصفة، أن نجتهد معا بالاتجاه نفسه. بينما كلنا نعاني من الجائحة، وبينما تسببت الصراعات هنا في شقاء كثير، إنه من غير اللائق أن يهتم أحد بشؤونه الخاصة فقط. لن يكون سلام بدون مشاركة وقبول الجميع للجميع، وبدون عدالة تضمن المساواة والازدهار للجميع، بدءا بالمستضعفين. ولن يكون سلام بدون أن تمد الشعوب يدها إلى الشعوب الأخرى. ولن يكون سلام ما زلنا نعتبر الآخرين أنهم آخرون، وليسوا “نحن”، جزءا منا. ولن يكون سلام ما دامت التحالفات تنشأ ضد أحد ما، لأن تحالفات البعض ضد البعض لا تزيد إلا الانقسامات. السلام ليس فيه غالبون ومغلوبون، بل إخوة وأخوات، يسيرون من الصراع إلى الوحدة، رغم سوء التفاهم وجراح الماضي. لنصل ولنطلب هذا السلام لكل الشرق الأوسط، وأفكر بشكل خاص في سوريا المجاورة المعذبة.

كان أبونا ابراهيم نبي العلي، وهو الذي يجمعنا اليوم متحدين معا. تقول نبوءة قديمة إن الشعوب “سيضربون سيوفهم سككا ورماحهم مناجل” (أش 2، 4). هذه النبوءة لم تتحقق، بل السيوف والرماح صارت صواريخ وقنابل. فمن أين يمكن أن يبدأ طريق السلام؟ بأن نعمل على ألا يكون لنا أعداء. من كانت له الشجاعة لينظر إلى النجوم، ومن يؤمن بالله، ليس له أعداء يقاتلهم. له عدو واحد فقط، واقف على باب القلب ويقرع يريد الدخول: هو العداوة. يسعى البعض ليكون لهم أعداء، أكثر من سعيهم ليكون لهم أصدقاء، ويبحث كثيرون عن مصالحهم الخاصة على حساب الآخرين. إلا أن من ينظر إلى النجوم والوعود، ومن يتبع طرق الله، لا يمكن أن يكون عدوا لأحد، بل هو من أجل الجميع. ولا يمكن أن يبرر أي شكل من أشكال الهيمنة والظلم والانتهاك، ولا يمكن أن يعتدي على أحد.

أيها الأصدقاء الأعزاء، هل كل هذا ممكن؟ يشجعنا أبونا ابراهيم، هو الذي عرف أن يرجو على غير رجاء (روم 4، 18). في عبر التاريخ، كثيرا ما سعينا إلى تحقيق أهداف أرضية فقط، وسار كل منا بمفرده، لكن بعونه تعالى يمكننا أن نبدل أنفسنا نحو الأفضل. علينا نحن إنسانية اليوم، وقبل كل شيء، نحن المؤمنين من كل الأديان، أن نحول أدوات الكراهية إلى أدوات سلام. علينا نحن أن نحث المسؤولين عن الشعوب، وبشدة، حتى يبدلوا انتشار الأسلحة المتزايد بتوزيع الغذاء للجميع. علينا نحن أن نسكت الاتهامات المتبادلة، لنسمح بسماع صراخ المظلومين والمبعدين على هذا الكوكب: كثيرون هم المحرومون من الخبز والدواء والتعليم والحقوق والكرامة! علينا نحن أن نسلط الضوء على المناورات المشبوهة التي تدور حول المال، وأن نطلب بشدة أن لا يذهب المال دائما لتغذية شهوة البعض الجامحة. علينا نحن أن نحرس بيتنا المشترك من نوايانا المدمرة. علينا نحن أن نذكر العالم بأن الحياة البشرية قيمتها بما هي، وليس بما تملك، وأن حياة الجنين، وكبار السن، والمهاجرين، رجالا ونساء من كل لون وقومية، هي دائما مقدسة، وقيمتها مثلها مثل حياة الجميع! علينا نحن أن نتحلى بالشجاعة لنرفع أعيننا وننظر إلى النجوم، نجوم الوعد، النجوم التي رأت أبانا ابراهيم.

كانت مسيرة ابراهيم بركة سلام. لكن لم تكن سهلة: كان عليه أن يواجه معارك وأحداثا غير متوقعة. أمامنا نحن أيضا طريق وعر، ونحتاج، مثل أبينا ابراهيم، أن نتخذ خطوات ملموسة، وأن نحج نحو الآخر حتى نكتشف وجهه، وأن نتبادل الذكريات، والنظرات ولحظات الصمت، والقصص والخبرات. أثرت في شهادة السيدين داود وحسن، مسيحي ومسلم، درسوا معا وعملوا معا ولم تحبطهم الاختلافات. معا بنوا المستقبل، واكتشفوا أنهما إخوة. للمضي قدما، نحتاج نحن أيضا إلى أن نقوم معا بشيء جيد وعملي. هذا هو الطريق، خاصة للشباب الذين لا يستطيعون أن يروا أحلامهم تتحطم بسبب صراعات الماضي! من الضروري تنشئتهم على الأخوة، من الضروري تنشئتهم للنظر إلى النجوم. وهذا أمر عاجل حقا، لأنه اللقاح الأكثر فعالية لبلوغ غد فيه سلام. لأنكم أنتم، أيها الشباب الأعزاء، حاضرنا ومستقبلنا!

مع الآخرين فقط يمكن أن تلتئم جراح الماضي. تحدثت السيدة رفح عن مثال ناجي البطولي، من طائفة الصابئة المندائيين، الذي فقد حياته في محاولة لإنقاذ عائلة جاره المسلم. كم من الناس هنا، في صمت العالم وعدم اهتمامه، بدأوا رحلات الأخوة! تحدثت أيضا لنا السيدة رفح عن معاناة الحرب التي لا توصف، والتي أجبرت الكثيرين أن يتركوا بيوتهم ووطنهم بحثا عن مستقبل لأبنائهم. شكرا، رفح، على مشاركتنا إرادتك الراسخة للبقاء هنا في أرض آبائك. كثيرون لم ينجحوا واضطروا إلى الفرار. أتمنى أن يجدوا ترحيبا وديا يستحقه أشخاص ضعفاء وجرحى.

بالتحديد، من خلال حسن الضيافة، وهي سمة مميزة لهذه البلاد، حظي ابراهيم بزيارة الله، ووهبه الله ابنا على غير توقع منه. (را. تك 18، 1-10). نحن، الإخوة والأخوات من ديانات مختلفة، التقينا اليوم هنا، في بيتنا، ومن هنا، معا، نريد أن نلتزم حتى نحقق حلم الله وهو: أن تصبح العائلة البشرية مضيافة ترحب بجميع أبنائها. وإذ ننظر معا إلى السماء نفسها، نسير بسلام على الأرض نفسها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى