مقالات

(مات على أرضنا) ولكن لا بواكي له … في استذكار سيرة أول شهداء السيادة في العراق

سلام عادل

  • سيرة أكثر شخص (أجنبي) عانى لحظة الموت من أجل العراقيين، والشخص الوحيد الذي تعاملت معه مرجعية النجف بثقة.

بعد مرور 17 سنة على استشهاده تُقدم (شبكة نتفليكس) فيلماً سينمائياً عن حياة (سيرجيو)، البرازيلي الذي استشهد في العراق في شهر آب/ اغسطس – 2003، جراء عملية ارهابية انتحارية بسيارة مفخخة، استهدفت (فندق القناة)، وهو مقر بعثة الأمم المتحدة في العراق.

وكان (سيرجيو فييرا دي ميلو)، في ذلك الوقت، يقود جهوداً أممية مبكرة لاخراج القوات الامريكية والجيوش المتحالفة معها خلال غزو العراق، وفي ذلك الوقت كنت صحفياً معتمداً لدى بعثة الأمم المتحدة في بغداد، ما سمح لي بلقاء الرجل المحترم (سيرجيو) على مدار الأيام، واحياناً في أوقات متقاربة خلال الاسبوع.

(سيرجيو) كان صديقاً للصحفيين، وكان بمقدور الصحفيين المعتمدين لدى البعثة آنذاك توجيه الأسئلة الى (سيرجيو) في أي مكان وفي أي وقت، حتى أثناء فترات تناول الطعام في كافتيريا البعثة، او في الباحات الخارجية للمبنى او داخل الممرات.

سألت (سيرجيو) مرة عن سر هذا التعامل السهل والودود مع الصحافيين، وكنت في حينها صحافياً شاباً أعمل مراسلاً لدى وكالة الأنباء اليابانية، أحاول أن أعرف كل شيء عن هذا العالم المليء بالجيوش والجنرالات والفوضى، فقال لي (سيريجيو) : إن والدي كان صحافياً مناصراً لثورة الحرية والديمقراطية في البرازيل، ولكن بسبب قمع السلطة الشديد للثوار ومنع حرية التعبير قرر والدي تحدي القمع والاستمرار باصدار الجريدة لكنه ترك مكان مقالته على الصفحة فارغاً، اعتراضاً منه على منع حرية التعبير ولأجل ان يسمح للجمهور بكتابة ما يشاؤون من نقد واعتراضات في هذا الفراغ الابيض، وهو ما تسبب فيما بعد بسجنه.

عموماً .. كان (سيريجو) معلماً لكل من حوله، وشجاعاً، وشعبي، ودبلوماسي الى أقصى درجة، ومازلت اتذكر ذلك اليوم البغدادي الحار عندما وصلت رسالة من (السيد السيستاني) الى فندق القناة، كان يدعو فيها (سيريجيو) لزيارة النجف، في الوقت الذي كان فيه (بول بريمر) يتعالى ويتكبر على (زعيم الطائفة الشيعية الروحي)، لكن (سيرجيو) الانسان الحكيم، والذي يحترم الشعوب، جمع كل فريقه في تلك اللحظة، بما فيها الصحافيين، ليحدثهم بفرح عن رسالة (السيد السيستاني)، حيث كان يجد فيها بداية الطريق لجمع العراقيين من أجل استعادة وطنهم من الغزو الأمريكي، لكن (سيرجيو) سقط شهيداً قبل ان يحقق هذا الحلم، وقبل ان يتمكن من حماية العراقيين قبل الانزلاق في الحرب الأهلية، وقبل ان يتحول البلد الى ساحة مستباحة للارهابيين.

ولذلك أجد في الفيلم الذي قدمته (نتفليكس)، هذا الموسم، والذي حمل عنوان (CERGIO) فرصة كبيرة للعراقيين لإعادة قراءة المشهد السياسي الذي بدأ في 2003، ورغم ان الفيلم كان مُعداً لسرد قصة حياة (سيرجيو) الطويلة، التي بدأت قبل 35 سنة في الأمم المتحدة، اغلبها في حل النزاعات وإنهاء الإحتلالات، إلا أن حياة (سيرجيو) الأخيرة، التي بدأت في بغداد، وانتهت في بغداد، هي جزء من التاريخ الوطني للعراقيين، الذي لطالما تم إخفاؤه.

سألني (سيرجيو) مرة، اثناء طاولة مفتوحة في مكتبه، كان دائماً يدعو الصحفيين اليها للتباحث والإطلاع مع مجموعة من مستشاريه، اتذكر منهم (اللبناني غسان سلامه، المصري محمد فوزي، الأردني عدنان جراد) وكذلك المساعدة والرفيقة لـ(سيرجيو) السيدة الارجنتينية (كارولين لارييرا)، التي ستشاهدونها كثيراً عبر الفيلم، كونها شاركت (سيرجيو) دور البطولة.
سألني (سيرجيو) باعتباري الصحافي العراقي الشاب الوحيد من بين مجموعة الحاضرين:

  • قال لي : ما هي وجهة نظرك في الأمم المتحدة ؟
    قلت له : لا أحد من العراقيين يثق بالأمم المتحدة، لان العراقيين عاشوا 13 سنة تحت حصار قاتل جرى فرضه عليهم تحت مظلة الأمم المتحدة، واليوم يدخل عليهم 30 جيشاً بالدبابات بحجة وجود اسلحة دمار شامل، وهي أكبر كذبة تجري في العالم أمام أسماع وانظار الأمم المتحدة.

في اليوم التالي من هذا اللقاء مع (سيرجيو)، شاهدت أنا، مثلما شاهد الجميع غيري من كوادر دبلوماسية واعلامية، اللافتة الورقية البيضاء المعلقة على لوحة الإعلانات، داخل مقر الأمم المتحدة في بغداد، والتي كتبها سيرجيو بخط يده، مكتوب عليها “يجب ان نعمل من اجل تحسين سمعة الأمم المتحدة في العراق”.

ولكن في تلك (الظهيرة السوداء)، يوم مقتل (الشهيد سيرجيو) كانت الخطط في الظلام تسير بحسب التوقيتات الزمنية المفروضة، والتي استبقت وصول الصحافيين الى (فندق القناة)، وكنت واحداً منهم، حيث وجهت للصحافيين دعوة من قبل المنسق الاعلامي للبعثة انذاك، للحضور الى مؤتمر صحافي سيعقده (سيرجيو)، سوف يكشف من خلاله مضامين (تقرير البعثة) الذي سيتم رفعه الى مجلس الأمن بخصوص انتهاكات حقوق الانسان التي ترتكبها القوات الامريكية والمتحالفين معها في العراق.

لكن مضامين ومفردات ذلك (التقرير) لم تصل في ذلك اليوم الى المجتمع الدولي، لا عبر (الصحافيين) ولا عبر (سيرجيو)، فقد تناثرت الأوراق واحترقت تحت الانقاض، مثلما ضاع منا (سيرجيو) في تلك (الظهيرة السوداء)، وفاضت روحه، بعد ان ظل لساعات يعاني تحت الجدران الكونكريتية التي تساقطت عليه.

انا في حينها، كنت في طريقي الى (فندق القناة) حين وقع الانفجار، ولم يكن هذا النوع من الانفجارات أمراً عادياً، فالارهاب لم يكن قد بدأ بعد في بلاد الرافدين، وقد وصلت بعد 30 دقيقة من الحادثة، كانت النيران مازالت تشتعل والرعب والجرحى في كل مكان، عندها وصل (بول بريمر) ومرافقيه، لم يكن عنده شيء ليقوله للصحافيين الذين أحبوا (سيرجيو) كثيراً، واكتفى بالوقوف والنظر الى (مقبرة التقرير) التي ضمت أيضاً جثمان (سيرجيو) تحت الأنقاض مع 22 موظفاً آخرين لدى البعث، بعضهم عراقيين واجانب..

بعد فترة من الحادث الأليم، الذي مازلت أتذكر أحداثه بحزن ومرارة رغم مرور 17 سنة على وقوعه، جرى الإعلان عن إلقاء القبض على (مدبر العملية)، وهو الإرهابي (ارواز عبد العزيز محمود سعيد)، وبحسب القضاء العراقي تم الحكم بالإعدام على هذا الإرهابي الذي اعترف بانه ينتمي لتنظيم ابو مصعب الزرقاوي، ولكن خلفيات الجريمة الاخرى لم يتم الإعلان عنها، خصوصاً الدوافع، التي مازالت مبهمة، حيث لا أحد يعرف حتى اللحظة، لماذا قرر تنظيم القاعدة، تدشين عملياته الارهابية في العراق بضرب البعثة الأممية دوناً عن القوات الأمريكية، وظل الكشف عن التحقيقات بالكامل محل مطالبة أصدقاء وزملاء وأحباء (سيرجيو) فقط، وسط صمت الأمم المتحدة والادارة الأمريكية.

وبعد مرور سنوات من يوم (الظهيرة السوداء)، التقيت مجدداً بالسيدة (كارولين لارييرا) المساعدة والصديقة والزوجة للسيد (سيرجيو)، وكان ذلك في مقر اليونسكو العام في باريس بمناسبة مرور 10 سنوات على استشهاد (سيرجيو)، حيث أقامت المنظمة استذكاراً لهذا الرجل الفيلسوف الذي تخرج من جامعة السوربون بتخصص الفلسفة، وعمل من أجل حل النزاعات في 15 بلداً على الأقل منذ انضمامه للعمل في الأمم المتحدة سنة 1969.

السيدة (كارولين لارييرا) كانت سعيدة عندما تحدثت معي بعد كل تلك السنوات، وكانت فرحة باتفاق نقل السلطة والسيادة للعراقيين الذي حصل بالاتفاق مع الامريكان عام 2011، وكانت تقول: إن هذا كان هدف (سيرجيو)، وبسببه سقط شهيداً في العراق.
ولكنني لم أقابل (كارولين لارييرا) مجدداً منذ عام 2013، حيث التقينا آخر مرة في باريس، لاخبرها بما جرى للعراق لاحقاً بعد ان دخل داعش بغزوة جديدة ليفتح الباب مجدداً لعودة (البساطيل الأمريكية).

ولكنني أشعر بروح (سيرجيو فييرا دي ميلو) مازالت ترفرف على شرق القناة في بغداد، رغم دفن جثمانه المقطع في (جنيف)، وكنت قد زرت قبره عام 2015 هناك، تحدثت مع القبر في حينها، قلت له: إن (العراق) بلد الشهداء العظماء على ما يبدو، وأنه بوابة السماء الخالدة للمظلومين والمناضلين من أجل الحرية والعدالة والمساواة.

مات (سيرجيو) في بغداد، وهو ليس أول شهيد من أجل الإنسانية يموت على أرض العراقيين، ولن يكون الأخير بحسب ما اعتقد، وهو ما اثبتته الاحداث منذ مقتل الحسين مروراً بسيرجيو ووصولاً الى ابو مهدي المهندس والقائد سليماني، لكن البكاء على الشهداء جزء من التقدير لهم، لعله يليق بارواحهم العظيمة.

ادعوكم لمشاهدة فيلم (CERGIO) على شبكة (نتفليكس).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى