مقالات

مجتمعنا يتغيّر بقوة

مجتمعنا يتغيّر بقوة – منقذ داغر

في الحلقتين السابقتين شرحت كيف تطورت فلسفة الليبرالية التقدمية الجديدة التي باتت تسيطر اليوم ليس فقط على أهم الصناعات الرقمية الكبيرة وكثير من مفاصل الأعلام والمال أيضاً،بل أمتدت سيطرتها لكثير من الترتيبات المؤسسية كالأتحاد الأوربي وكثير من الحكومات الغربية والمنظمات الدولية(كمنظمة التجارة العالمية وحتى بعض منظمات الأمم المتحدة). ولم يمر هذا الزلزال المفاهيمي والقيمي والأقتصادي والسياسي والمؤسسي دون ردود أفعال ومقاومة شديدة،وأحياناً عنيفة من قبل المجتمعات التي ترى هذا التغيير الكبير في قيمها،ومن قبل هذه المؤسسات (بضمنها الدينية) التي ترى هذا الأضمحلال الكبير في قدراتها وسلطاتها. وكان من نتاج ردود الأفعال هذه تعزيز نفوذ ما بات يسمى باليمين المتطرف في الغرب. لقد كان البريكزت Brexit وتنامي الحركات اليمينية المتطرفة كالفاشية، وبروز الأحزاب والقادة الشعبويون في أوربا وأمريكا، وتنامي الظاهرة الترامبية Trumpism(نسبة الى ترامب) بعض من مظاهر الأحتجاج السياسي والأجتماعي على تغول الليبرالية التقدمية الجديدة في الغرب،وتجسيد لقوة اليمين المتطرف.يقصد باليمين المتطرف Far Right كل المجموعات التي تؤمن ليس فقط بأن مجتمعاتها مهددة بالفناء بل أيضاً بضرورة مواجهة الليبرالية التقدمية الجديدة بكل الأساليب بما فيها القوة. ينضوي تحت لواء هذا اليمين جماعات سياسية متطرفة كالمحافظين الجدد الذين قادوا الغزو ضد العراق،وحزب الشاي في أمريكا،وحزب الاستقلال والحزب الوطني في بريطانيا،والأحزاب الفاشية في أوربا. وهناك قاسمين مشتركَين بين كل هذه الجماعات اليمينية المتطرفة هما الأنتماء الطبقي، والأنغلاق الأجتماعي. فغالباً(وليس دائماً) ما ينتمي أعضاء هذه الأحزاب والجماعات الى الطبقة الوسطى أو البورجوازية الصغيرة( كالمهنيين، والمديرون الصغار والوسط) مع أحتمال أنضمام بعض الفقراء لهم. كما يمتازون بأنهم يرفضون التغييرات الأجتماعية التي حصلت في مجتمعاتهم خلال العقود الأخيرة وأفقدتها ما يعتقدون أنه طهرها ونقاؤها الآلهي. أنهم يريدون العودة الى مجتمعات ما قبل العولمة والأنفتاح وأنتشار الهجرة والتكنولوجيا الرقمية. ومثل جماعات الليبرالية الجديدة،فأن وجود هذه المشتركات بين جماعات اليمين المتطرف لا يعني عدم وجود أختلافات حقيقية بينها. فمثلاً، في الوقت الذي تؤمن فيه معظم الأحزاب اليمينية المتطرفة بالأنتخابات،ترفضها الحركات الفاشية بشدة. وفي الوقت الذي تسعى فيه أحزاب اليمين المتطرف الى أضعاف سيطرة الدولة على مفاصل الحياة،فأن الفاشيين يريدون سيطرة الدولة على كل مفاصلها.أن المشكلة التي بات يعاني منها الغرب بشدة هو هذا الأستقطاب الشديد بين تيار الأنفتاح الشديد وأسقاط كل الثوابت الأجتماعية والأقتصادية(الليبرالية التقدمية الأجتماعية) وتيار العودة للماضي ونقاؤه الأجتماعي الالهي. أنه في الواقع صراع بين دعاة التغيير غير المحدود ودعاة البقاء غير المحدود. وفي خضم هذا الصراع وأحتدامه وتطور آلياته وأدواته،هناك كثير من العالقين في الوسط ممن لم يعد أحدا ينصت لمخاوفهم من القادم ،وتفهمهم للحاضر. هؤلاء الذين هم في الغالب من المثقفين والمفكرين والمؤمنين باليسار اللامتخلف واليمين اللا متعجرف والدين اللا متطرف، سيكونون أمام خيارين لا بديل لهما.مفاهيم يساريةالأول هو تطوير مفاهيمهما اليسارية واليمينية وحتى الدينية لينتجوا بديلاً مقبولاً يتناسب مع عقل التقدم اللامتناهي من جهة ومع روح الأفكار الأجتماعية التي يؤمنون بها من جهة أخرى. بديل يميني أو يساري أو ديني يحتفظ بعبق الماضي،وألق الحاضر،والتوق للمستقبل.أما البديل الثاني فلا يتضمن تهميشهم وأفتراسهم فقط،بل أنتظار ما ستفسر عنه معركة كسر العظم بين اليمين المتطرف والليبرالية التقدمية الجديدة والتي لا يستطيع أحد أن يتنبأ بأحتمالاتها ولا مآلاتها .أخيراً،يجب علينا أن لا نخطىء بأتجاهين،الأول هو الأعتقاد أن هذه التغيرات وهذه المعركة القيمية الدائرة في الغرب لا زالت بعيدة عنا. أنها في الحقيقة باتت تقرع أبوابنا بشدة.يكفي أن أصدمكم بالقول أنه خلال السنوات الخمسة الأخيرة أنخفضت نسبة الذين لا يبررون المثلية الجنسية بحوالي 30 بالمئة في العراق بحيث باتت نسبة من لا يبرروها في عام 2020 بحدود 58 بالمئة فقط! وقفزت نسبة من يبررون الطلاق لتصل الى 42 بالمئة، والأجهاض الى 25 بالمئة. من جانب آخر زادت نسبة من يبررون العنف ضد الآخرين الى 20 بالمئة، ومن يبررون سرقة أملاك الآخرين الى 18 بالمئة. بمعنى أن هناك تغييرات أجتماعية هائلة تواجه مجتمعاتنا الآن وليس غداً. أما الخطأ الثاني الذي يجب أن لا نقع فيه فهو اعتقادنا أننا يمكن أن نحمي مجتمعاتنا من خلال المنع والتحريم والتجريم. أننا بحاجة لتطوير بدائل تقنع الشباب بصحة مجتمعاتهم وقدرتها على مواكبة التغيير. ومالم يتم تطوير هذه البدائل فأننا سنكون نحن،وليس سوانا، من تآمر على مستقبل أولادنا وأحفادنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى