مقالات

من الصراع الطائفي إلى الصراع الطيفي

منقذ داغر

لاشك في ان التسريب الصوتي الاخير لظريف كان مقصوداً ولم يحدث صدفةً. يأتي هذا التسريب في رأيي كأحدث حلقة في الصراع الايراني-العربي-الدولي والذي بدأ بالانتقال من كونه صراع وجود يعتمد الغطاء الطائفي الى صراع نفوذ يعتمد على موقع المتصارعين على النفوذ في المعسكرات الثلاثة:أميركا،العرب وايران داخل طيف التشدد السياسي في تلك المعسكرات. وبعد ان كان الصراع حتى مرحلة قريبة يدور بين ثلاث رؤوس ومصالح ورؤى لتلك المعسكرات،صار يدور-واقعاً- بين معسكري التشدد والاعتدال داخل ايران،والعرب وامريكا. وعلى الرغم من ان الصراع على المصالح بين هذه المعسكرات الثلاث لا زال مستمراً،بل وسيتصاعد ،الا ان التطور الجديد الحاصل يتمثل في ان من يحدد مدخلات ذلك الصراع ومدياته لم تعد المصلحة القومية ولا حتى الدينية او العقائدية للمتصارعين بل باتت مصالح وطموحات المتنافسين السياسيين داخل كل معسكر هي التي توجه ذلك الصراع ومخرجاته. بمعنى ان هذا الصراع تحول تدريجياً الى صراع ايراني-ايراني،وامريكي-امريكي،وعربي-عربي(وان كان بدرجة اقل).ان هذا الصراع الداخلي بات هو الموجه للصراع الخارجي ومخرجاته،بعد ان كان العكس هو الصحيح.قواسم مشتركةالاهم من ذلك،والاغرب منه،ان نجد قواسم مشتركة بل وحتى تفاهمات بين المتشابهين فكرياً في امريكا وايران والعرب(بدرجة اقل)،اكثر من القواسم والتفاهمات ضمن كل من تلك المعسكرات.وليس ادل على ذلك مما كشفه التسريب من تقارب كبير بين ظريف وكيري اقوى من التفاهم بين ظريف وسليماني. في المقابل كشف التسريب ان المشتركات بين سليماني وروسيا كانت اكبر من التفاهمات بين سليماني وظريف!!واذا كان ابرز مظاهر ذلك التموضع الطيفي الداخلي في ايران يتمثل في صراع مؤسسة الدولة،مع مؤسسة(الثورة)،وهو ماعبر عنه ظريف بوضوح تام في تسريبه الصوتي،فأن الصراع على الموقف من ايران داخل امريكا انتقل من اختلاف سياسي بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي الى صراع فكري بين معسكري التطرف والتشدد.فحتى داخل الحزب الجمهوري كان هناك من يعارض سياسة ترامب المتشددة،وهناك الان ايضاً،داخل الحزب الديمقراطي من يعارض بشدة توجهات ادارة بايدن للتفاهم مع ايران،مثل السيناتور منيندز رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الشيوخ. بل وبرغم حرص بايدن على تعيين فريق متجانس داخل ادارته فيما يخص ايران الا ان هناك خلافات تظهر احيانا داخل تلك الادارة فيما يخص الملف الايراني واتوقع ان يتصاعد ذلك تدريجياً. أما داخل المعسكر العربي فرغم عدم التبلور التام والواضح بعد،الا اننا بدأنا نشهد إنحسار معسكر التشدد الطائفي والعقائدي وخسرانه حتى لمواقعه التي عززها بتحالفه في نهاية عهد ترامب مع نتنياهو ، وعودة معسكر الاعتدال والبراغماتية. هذا لا يعني ان معسكر التشدد العربي تجاه ايران قد خسر،لكنه يعني وجود حراك سياسي ومراجعات فكرية قد تسفر عن تموضعات جديدة على طيف التشدد-الاعتدال العربي.ضمن هذا الصراع السياسي(الطيفي)،يأتي التسريب الاخير ليمثل هجمة مرتدة من قوى التشدد على قوى الاعتدال:-فأيرانياً،سيعزز هذا التسريب من مواقع المتشددين والقريبين على الحرس الثوري في انتخابات حزيران. انه سيرسل ذات الرسالة التي تجعل الناخبين(غير المؤدلجين)وكما هو الحال في العراق عندنا،يحجمون عن الذهاب الى الانتخابات،ومفادها ان الانتخابات لن تغير شيئاً مادامت الدولة اللارسمية هي الحاكم الفعلي. اذ يلاحظ ان معظم التسريب يتحدث عن تحكم سليماني والحرس بكل شيء وبضمنه السياسة الخارجية.وهنا سيتساءل الناخب:ولماذا انتخب مادام الحرس هو الحاكم الفعلي لايران؟! من جانب آخر فان ظريف(الذي يمثل قوى الدولة)ومن وراءه كل من يؤمنون بخطه تم (اجتثاثهم) وارهابهم سياسيا من خلال هذا التسريب،بحيث لن يستطيعوا الدفاع عن وجهات نظرهم ومواقفهم بخاصة وانهم تجرؤوا على احد (الخطوط الحمر) والمتمثل بالجنرال سليماني. وقد بدأت داخل ايران حملة اعلامية كبيرة للتشكيك في ظريف ودوافع معسكره،وليس غريباً اتهامه بالجوكريه!-أما داخل المعسكر الامريكي،فان هذا التسريب(وبخاصة الشق المتعلق بادعاء ظريف ان كيري كان يسرب له معلومات عن الغارات الاسرائيلية ضد مصالح ايران في المنطقة)سيتفاعل ويتم استثماره لدفع بايدن وادارته نحو مزيد من التشدد بخاصة في محادثات جنيف الخاصة بالاتفاق النووي.وحتى لو توصل الطرفان لاتفاق (وهو ما استبعده شخصياً) فسيكون ذلك الاتفاق ضعيف وتحت مرمى نيران النقد والتشكيك من الطرفين وعرضة للانهيار في اي لحظة.-اما على الصعيد العربي فانه وبرغم محاولات العراق(مدعوماً بقوة علاقات الكاظمي العربية)وقطر للتقريب بين ايران والسعودية فان الشوط ما زال طويلاً للوصول الى تفاهمات صلبة بين ضفتي الخليج العربي.مع ذلك فان الحديث الاخير لولي العهد السعودي يبدو مبشراً، لكن يجب عدم التقليل من قوة التيار الديني في السعودية الذي مازال فاعلاً رغم الضربات الاخيرة التي تلقاها على يد الامير محمد بن سلمان. كما يجب عدم اغفال تأثير التفاهمات السياسية بين اسرائيل وبعض دول الخليج. من جانب آخر فان انسحاب ظريف وروحاني من المشهد الايراني وتوقع خسارة الخط الذي يمثل الدولة في الانتخابات الايرانية المقبلة وصعود قوى الثورة لتسيطر على ايران الرسمية بعد ان سيطرت على ايران اللارسمية،سيجعل من تفاهمات ضفتي الخليج العربي صعبة،ان لم تكن مستحيلة.ضمور تأثيرالخلاصة،فأن ضمور تأثير المد الديني في منطقتنا وفي ايران، قلل من أهمية الخلافات الطائفية كاساس للصراع وفسح المجال لصراع من نوع آخر يرتكز على عدم الثقة والشك في الآخر والذي تم بناءه ليصبح سداً عالياً بين ضفتي الخليج العربي من جهة وداخل الدول المتشاطئة من جهة اخرى. هذا السد العالي استفاد من موجة الشعبوية والتطرف التي غزت العالم مؤخراً. وبالتالي تحول الصراع من صراع خارجي طائفي ومصالحي فقط الى صراع داخلي فكري يستثمر الصراع الخارجي ليفوز بمزيد من السلطة والمكاسب التي لم يعد الدين قادراً على تأمينها له.وهنا اذكر بما قلته في اكثر من مقال سابق،فان من يتوقع ان مجيء بايدن سيحل مشاكل الصراع الايراني العربي، فانه واهم. هذا الصراع لن يحله الا القناعة الفكرية للمتشاطئين بأن الكل خاسر من النزاع واستمراره،والكل رابح من التفاهم وقراره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى