مقالات

هشام الهاشمي لن يكون المغدور الأخير

بقلم: حميد الكفائي

منذ عام 2003 والاغتيالات تتوالى في العراق، ولا يمر يوم دون أن يكون هناك اغتيال متعمد أو عشوائي يستهدف شخصية محددة أو مجموعة من الأشخاص.وقد راح ضحية هذه الاغتيالات الإجرامية الآلاف من الأبرياء حتى الآن، ومعظمهم من ذوي الخبرة والكفاءة، بينما تسببت في هجرة الملايين من العراقيين، داخليا، إلى المحميات الطائفية والقومية والقبلية والمناطقية الأكثر أمنا، وإلى أصقاع الأرض المختلفة، بعيدا عن الأهل والوطن والجذور الثقافية.آخر المغدورين هو الدكتور هشام الهاشمي، الباحث المرموق في الشأن الأمني، الذي خبر الجماعات المسلحة وعرفها عن قرب في سني عمره الأولى، وأدرك خطل نهجها، فنذر نفسه لمحاربتها عبر العلم والأبحاث الرصينة، فكان حقا عدوَّها الأول، إذ ساهم مساهمة فعالة في تفكيكها وإلحاق الهزيمة بها عبر التعاون مع الجيش والأجهزة الأمنية العراقية منذ عشر سنوات على الأقل. لقد كان رجلا عقلانيا ومساندا لقيام دولة حديثة في العراق، متصالحة مع شعبها ومع المجتمع الإقليمي والدولي. اعتبرته داعش والقاعدة وباقي الجماعات المسلحة عدوها الأول وحاولت قتله منذ زمن بعيد، ولكنه فلت منها بالحذر والتنقل المتواصل، فقد عرف طريقةَ تفكيرِ قادتِها وأساليبَهم، مع ذلك انتهى مقتولا على أيدي من يزعم محاربة الإرهاب، بينما هو يمارسه باحترافٍ ودجل وباسم الدين والمقاومة، ولصالح دولة معادية.ليس هناك شك عند معظم العراقيين فيما يتعلق بالجهة التي نفذت الاغتيالات الممنهجة ضد الشخصيات العلمية والأكاديمية والمهنية والفنية والسياسية العراقية، التي طالت آلاف العلماء والخبراء وأصحاب الرأي والطيارين والأطباء والمهندسين. وقد أشيع في العراق في بداية هذه الحملة الإرهابية بأن إسرائيل تقف وراءها، إذ كانت الجماعات (الإسلامية) تروج لهذه النظرية، بهدف إخفاء الفاعل الحقيقي، لكن الحقائق اتضحت لاحقا، وأن الذين يلومون إسرائيل إنما هم أنفسهم يقفون وراءها ويخططون للمزيد منها.لم تتمكن السلطات الرسمية (إن صحت التسمية) من الإمساك بأي من القتلة، ربما لأنهم محميون ويمتلكون هويات الدولة وتسهيلاتِها، أو أنهم جزء من أجهزة الدولة. ألم تُكتَشَف قبل سنوات عصابةُ خطفٍ وابتزاز في بغداد يقودُها ضابطٌ ينتمي إلى عائلة الوزير المسؤول عن الأمن، الذي كان قد عينه في منصبه؟ ليتنصل الوزيرُ منها، فيهْرب أعضاؤها (أو يهَرَّبوا) إلى جهةٍ (مجهولة) ثم تنتهي القضية وكأنها لم تحدث. ألم تقُم عصابةٌ يقودها منتسبو حمايةِ مسؤولٍ كبير، بالسطو على بنك وسط بغداد فتقتل حراسه الثمانية وتسرق منه 7 ملايين دولار، ثم تمسك الأجهزة الأمنية بالاموال المسروقة في مقر جريدةٍ تابعة لذلك المسؤول الكبير، الذي كوفئ لاحقا بمنصبٍ أعلى؟ ثم تهْرب هذه المجموعة (أو تُهرَّب) إلى الجهة (المجهولة) نفسها وتنتهي القضية دون أن يعرف الناس الحقائق كاملة.لم يسلم من الإغتيالات الممنهجة، حتى المصورون والسائقون، بل استهدفت النساء أيضا، ولأول مرة في التأريخ العراقي، تُعامل المرأةُ من ذوات الرأي الآخر، بطريقة وحشية غير متسقة مع الأعراف والتقاليد التي تحفظ لها كرامتها وسمعة عائلتها، لكن الناشطات المدنيات، قتلن بالطريقة نفسها التي قتل بها هشام الهاشمي وعلاء مشذوب وأحمد عبد الصمد ونزار عبد الواحد وكامل شياع وآخرون: مسلحون (مجهولون)، يستقلون دراجاتٍ نارية ويجتازون السيطرات الأمنية بسهولة ودون مساءلة، يلاحِقون الشخص المستهدف، ويطلقون النار عليه ويردونه قتيلا ثم يختفون، ولا توقفهم أيُّ سيطرة أمنية يمرون بها، ما يعني أنهم يحملون هوياتٍ رسميةً ومرخصون لحمل السلاح. قتلت سعاد العلي في البصرة وتارة فارس ولقاء عبد الرزاق في بغداد وأطوار بهجت في سامراء وخمائل محسن في الموصل وعشرات غيرهن بالرصاص، بينما قُتلت الدكتورة رفيف الياسري ورشا الحسن وأخريات بطريقة غريبة مبتكرة هي التسميم.اضطر العلماء والمثقفون والصحفيون العراقيون إلى الهجرة وطلب اللجوء في بلدان أخرى، بينما ظل العراق يعاني من سوء الإدارة والخدمات وقلة الكفاءات وتدهور الأمن في ظل إدارة مسؤولين فاسدين يؤتى بهم خصيصا كي يتقاسموا الإيرادات بين الجماعات الحاكمة.كانت الجماعات الدينية الموالية لإيران، مستفيدة كثيرا من تحليلات وأبحاث الدكتور هشام الهاشمي التي كانت فاعلة في إلحاق الهزيمة بتنظيمات القاعدة وداعش في العراق، إذ كان الرجل متميزا في معلوماته عن الجماعات المسلحة وأفكارها وكيفية إدارة نشاطاتها. لكن الهاشمي، كباحث رصين وعراقي حريص، لا يميز بين الجماعات الإرهابية المعادية للعراق، فكلها تهدف إلى الشيء نفسه، وهو السيطرة على العراق وإضعاف الدولة العراقية وجعلها هزيلة تابعة لها أو للجهات أو الدول التي تقف وراءها وتسيرها.بدأ الهاشمي يرى أن المليشيات الموالية لإيران تسلك سلوك داعش والقاعدة في عدائها للدولة العراقية وانتهاك سيادتها، عبر مهاجمة السفارات والقوات الأجنبية التي جاءت لمساعدة العراق في مقارعة الجماعات المسلحة، فاتجهت تحليلاتُه نحو كشف خطط هذه المليشيات أمام الرأي العام العراقي والعالمي. لقد أوضح الهاشمي أمرا في غاية الأهمية قبل أيام من اغتياله وهو أن المليشيات كانت تستخدم خطابا مزدوجا، فمن جهة تدعي أنها قواتٌ رسمية منضوية تحت هيئة الحشد الشعبي التي يفترض بأنها تخضع للقوانين العراقية وتلتزم بها، وتتبع أوامر القائد العام للقوات المسلحة، لكنها من جهة أخرى تهاجم السفارات الاجنبية والمطارات والمعسكرات العراقية. وعندما يُسأل قادتُها (السياسيون)، يقولون إن هذه فصائل غير منضوية تحت لواء هيئة الحشد الشعبي!أي أن هذه المليشيات تريد من الدولة أن تعترف بها كقوات رسمية وتزودها بكل التسهيلات المطلوبة وتدفع رواتب أفرادها، لكنها في الوقت نفسه لا تريد أن تخضع للقوانين العراقية وإمرة القائد العام، بل تنفذ أوامر من خارج الحدود لتقويض الدولة العراقية وتخريب علاقاتها الدولية.لقد أغضب هذا التحليل الذي قدمه الهاشمي للرأي العام المليشيات لأنه كشف بدقة احتيالَها وتناقضَ مواقفِها، وتبعيتَها لدولة معادية. عندها قرر قادةُ المليشيات تغييبَه جسديا، فهذه هي الطريقة الوحيدة التي يعرفونها للتعامل مع من يعتبرونهم خصوما لهم. وليس هناك سرٌ في الموضوع، فقد تحدث قادة هذه المليشيات عبر الأبواق التابعة لها، علنا ضد الهاشمي وشنوا عليه حملة لشيطنته، وبثوا عنه أخبارا ملفقة واتهموه بشتى التهم. وقد اتضحت خططُ هذه المليشيات لاغتيال الهاشمي قبل عدة أشهر عندما أطلقت خبرا كاذبا حول اغتياله، ومن الواضح أنه كان تهديدا له كي يغير من نهجه في كشف نشاطاتها المعادية للدولة والمجتمع.كان الهاشمي شخصية محببة للمجتمع العراقي والعربي، والكل يعلم بأنه يقدم خدمةً جليلة للعراق والمجتمع الدولي في مجالٍ مهم جدا وهو الإرهاب، وأن معرفته في هذا المجال لا تُضاهى، بسبب خبرته العملية وقدراته البحثية المتميزة. وعلى المستوى الشخصي، كان خلوقا ومتواضعا وهادئ الطباع ومهنيا، ولم ينحَز إلا لضميره الوطني والإنساني. وعند نشر الخبر الكاذب عن اغتياله، كنت شخصيا قلقا من احتمال تعرضه للأذى، فعبَّرتُ عن قلقي في تغريدة في تويتر وجهتها للهاشمي شخصيا قلت فيها إن خبر اغتياله هو تهديدٌ واضح يهدف لإسكاته، وتوقعت بأنه لن يسكت، فقد حارب القاعدة وداعش بشراسة ولن يتهاون في محاربة الدواعش الجدد.كنت آمل أن يكون ذلك التهديد تحذيرا للحكومة بأن تضطلع بمسؤوليتها في حماية الهاشمي من الأخطار المحدقة به، وله شخصيا بأن يعتني بأمنه إن لم تهتم به الحكومة. وقالت جهات مطلعة إن الحكومة زودته بحماية وسيارة مدرعة، لكنه رفضها حرصا منه على عدم إزعاج جيرانه بهذه الترتيبات الأمنية، فقد كان نبيلا وكيسا وخلوقا وإنسانيا في كل تصرفاته.كان على ما يبدو مطمئنا بأنه غير مستهدف لأنه يعمل للعراق وليس ضد أحد، كما أنه تمتع بعلاقات جيدة مع قادة المليشيات، وتوقع بأن هؤلاء سوف يكونون أوفياء له، ويقدرون علمه وخبرته التي انتفعوا منها طوال السنين الماضية، فظل يقود سيارته بنفسه دون حماية ويسكن في حي زيونة، غير الآمن، شرقي بغداد، ويقال إنه يقع تحت سيطرة مليشيا محددة وهي المتهم الأول باغتياله. نسي الهاشمي أو تناسى بأن العمل للعراق يعني العمل ضد من يريد أن يلحقه بإيران، فضحى بحياته من أجل بلده الذي خسر باغتياله عالما جليلا ومناضلا شجاعا ذا إرادة لا تلين.إنه حقا لأمرٌ مستغرب أن يغفِل شخص متخصص في الأمن أمنه الشخصي، وهو يعلم حجم الخداع والغدر الذي تتميز به الجماعات المسلحة، التي لا شرف لها ولا عهود ولا مواثيق، بل إنها لا تقيم وزنا للحياة الإنسانية أو العلم والخبرة أو مصلحة العراق أو النفع الذي يمكن أن يقدمه الهاشمي للعراق. لا يمكن إعفاء إيران من أفعال المليشيات، لأنها ما كانت لتستهر بهذا القدر لولا الدعمُ غير المحدود الذي تقدمه إيران لها. وجود هذه المليشيات يزعزع استقرار الدولة والمجتمع إضافة إلى كونه اعتداءً سافرا على السيادة العراقية، وهذا الأمر واضح لدى للحكومات العراقية التي خضعت لرغباتها وموّلتها وسمحت لها بإقامة قواعد عسكرية وقنوات فضائية ومصالح اقتصادية. إن كانت المليشيات قد تمكنت من تغييب الهاشمي جسديا، فإنها جلبت على نفسها غضب وحنق الشعب العراقي والمجتمع الدولي، وهو الأمر الذي سيقود إلى القضاء عليها، فهي وإن شعرت بأنها قوية حاليا، لكنها لا يمكن أن تكون دوما أقوى من الدولة العراقية والمجتمع الدولي، خصوصا مع تزايد المعارضة الشعبية لها.إن لم تمسك الحكومة العراقية بزمام الأمور الآن، وتواجه هذه المليشيات بقوة وحزم، فإن مزيدا من الضحايا سيسقطون برصاص مسلحيها. المواجهة مع الجماعات الخارجة عن القانون حتمية، فإن لم تحصل الآن، فسوف تحصل قريبا، لأن التفاهم معها غير مجدٍ بسبب تضارب الأهداف وتناقض المصالح. الشعب العراقي يريد حلا عاجلا من حكومته ومن المجتمع الدولي الذي مكّن هذه الجماعات من الهيمنة على العراق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى