مقالات

الجغرافية الزمنية .. وإصلاح الخلل في المركب الحضاري

مازن صاحب

اعتاد علماء التاريخ تقسيم الحضارة الى حقب زمنية تبدأ بحقبة الصيد وعيش الانسان الأول في الكهوف ومن ثم ظهور دولة المدنية الزراعية التي تواصلت لأحقاب متعددة حتى ظهور الحقبة الصناعية ثم حقبة صناعة المعرفة وانتاجاتها اليوم فيما ظل الانسان العربي الإسلامي ومنه العراقي يعيش حالة الانفصام ما بين اخلاقيات السلوك المجتمعي الزراعي واستخدام منتجات المعرفة من دون القدرة على انتاجها ، فنحن اليوم نستخدم الانترنيت من دون إمكانية صناعته كما نستخدم الحاسوب من غير القدرة على تطوير صناعته التي يقوم بها طرف اخر لا يمتلك ذات منطلقات اخلاقيات نصفها بالخلل الحاد في المركب الحضاري العربي الإسلامي وتحديدا في عراق اليوم .مثال بسيط على ذلك ، ان كلما نتعامل به كخلل في المركب الحضاري يعتمد المنقول الوصفي وليس المنتقد التحليلي ، فمنذ نشوء دولة المدينة المنورة وحتى سقوط دولة الخلفاء الراشدين ، لم اقرأ في كتب السيرة التاريخية سواء عند الطبري او صحاب البحار أي نص كامل لخطبة جمعة منذ عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم وحتى استشهاد الامام علي بن ابي طالب بل كلما نقل سجله في الكتب بما فيها نهج البلاغة انما هو (منقول وصفي) ليس نصا وثائقيا ، لذلك نجح عبد الرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده في تحليل الخلل في المركب الحضاري الإسلامي الحاصل حينما كتبوا عنه في واقع زمانهم كما فعل المحدثين من بعدهم مثل عابد الجابري وفالح عبد الجبار وغيرهم، فيما لا اعتقد ان كتابي فلسفتنا واقتصادنا قد غادرت التحليل الوصفي من دون نقد وقائع منقولة بلا تحليل نقدي يقدم البديل للإصلاح في ذلك الخلل المعرفي المتناقل الذي ما زال لم يغادر حقبة المدنية الزراعية فيما تطورت وقائع الجغرافية الزمنية نحو العولمة وإدارة انتاج المعرفة، مع الإبقاء على حالة المدنية الزراعية لدول ريعية تستهلك منتجات المعرفة فحسب ، ابسط مثال على ذلك ان شركة ابل انتجت بحدود 200 مليار دولار لعام 2020 ،وان دولة مثل تايوان تستورد كل شيء لكنها تصدر منتجات معرفية بمليارات الدولارات ،مقاربة بدولة مثل العراق او السعودية او ايران ، وهذا ما ادركته هذه الدول لاسيما ايران للوصول الى انتاج المعرفة في الصناعة النووية ومن قبلها حاول العراق ذلك لكن قصف مفاعله النووي من قبل إسرائيل .. السؤال الأكثر مثارا للجدل، ان تحليل مركب الخلل الحضاري بذات المنهج المعتمد في كتابات فلسفتنا واقتصادنا لم تقدم البدائل لإعادة انتاج المجتمع وتحويله من نموذج عفا عليه الزمن كمدنية زراعية ، الى دولة معرفة تقنية تتعامل مع العولمة وإنتاج المعرفة انما يتطلب ذلك الانقلاب الفكري الذي لا يغادر ثوابت الدين السماوي ، ولكن بالتأكيد عليه ان يغادر المنقول التاريخي وهذه معضلة المعضلات لان تحطيم (تابو المعبد) يمكن ان يبدأ بتكفير القائل به ، لعل ابرز ما ادعو اليه ان يعاد تفسير القران الكريم على أساس النقد التحليلي لوقائع النزول واسبابه الظرفية الزمانية والمكانية ومدى تطابقها مع وقائع الجغرافية الزمنية المعاصرة وتلك مهمة مرجعيات دينية متخصصة بعلوم القرآن الكريم ، فلا مقدس في أي تفسير الا نص الآية الكريمة ،اما ما ذهب اليه التفسير عبر حقب تاريخية متعددة فهو مثار جدل واراء ،مطلوب الاتفاق عليها في مجمع فقهي واحد على تفسير مقبول من مختلف الأطراف وتلك ليست بالمهمة السهلة لإصلاح الخلل في المركب الحضاري الإسلامي ليكون على قلب رجل واحد ، اما ان تبقى هناك تفسيرات بمناهج مختلفة لأصل الآيات القرآنية الكريمة، فهذا هو اصل الخلل في المركب المجتمعي الاسلامي والدعوة لدولة حضارية حديثة قولا وفعلا في برامج تطبيقية لن تكون غير سفسطة بلغاء لا علاقة لهم بجغرافية الواقع المعاصر … يبقى من القول لله في خلقه شؤون !!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى