مقالات

العراقيون !الأحياء أولى بالموتى أيها العراقيون !

بقلم مهدي قاسم

نادرا ما نجد بين أقوام و أمم و شعوب مجتمعا مشغوفا بالموتى لحد الهوس ، بحيث يمضي أوقاتا طويلة في زيارة المقابر والمراقد و العيش تحت ظلال الموتى ، مثل المجتمع العراقي ..بينما صفحات التواصل الاجتماعي تضج بأخبار الموتى الجدد أو التذكير بالذين توفوا في السنوات القريبة أو بزيارة مقابر الموتى أو طلب الدعاء لروح الجد الثالث الذي توفي قبل ثلاثين عاما .بطبيعة الحال ، إن مسألة تذكر الموتى الراحلين الأعزاء والاهتمام بهم أمر طيب ولفتة نبيلة ، بل وواجب علينا في كل الأحوال ..فضلا عن أنه أمر شائع في كل أنحاء العالم بغض النظر عن الأديان والمذاهب والعقائد وطبيعة الأنظمة والحكومات والمجتمعات ..إذ لهذا السبب بالضبط حددوا يوما ــ سنويا ــ عالميا لاستذكار الموتى و زيارة قبورهم ، ووضع شموع وباقة زهور عليها ، و طلب الرحمة والسلام لأرواحهم ، ثم العناية بأحوال القبور شذبا للأعشاب الضارة هناك ..ولكنهم يفعلون مرة واحدة ذلك في كل سنة فقط ، ، وليس كل أسبوع أو شهر ، مثلما يفعلون في العراق على مدار السنة ..وهل من المعقول والمنطقي العناية بالموتى إلى هذه الدرجة مقابل إهمال الأحياء وكأنهم غير موجودين أو عديمي الأهمية ؟ ! ….ولكن المثير والمذهل هو طقسية الموت ، تلك التي ترفرف كطائر غراب في فضاء الروح العراقية ” الحية ” التي طالما تحنّ وتستكين إليها ، ربما بكثير من افتتان وولع أيضا :فكثير من العراقيين يعيشون تحت ظلال الموت و مناخات الموتى ، كأنما ضربا من حالة صوفية و انجذابا عجيبا وغريبا نحو عالم الموتى يصل لحد المازوخية المستلذة باستحضار الموتى والطواف في هلاميات عوالمهم المثيرة جدا بالنسبة لهؤلاء الأحياء !..ربما من هنا ، هذا المزاج المتوتر و المكتئب والمتقلب الحاد دوما الذي يمكن تلمسه أو الإحساس به في تفاصيل الحياة اليومية ، ثم السحنة المتجهمة ، النرفزة العصبية المتشنجة طوال الوقت ، كحالة ملازمة ، حتى إن التغيير المكاني والبيئي الجديد ــ نقصد دول اللجوء المرفهة ــ يصبح عاجزا عن تغيير الحالة المزمنة و الراسخة و المتجسدة بالتآخي المازوخي مع عالم الاكتئاب و الموتى ..و لكن عندما المسألة تتعلق بأفراد معدودين فقط ، عندها يمكن القول بأن علاجيات النقاهة النفسية ــ بالرغم من عدم وجودها أصلا في العراق كفعالية طبية مقبولة وقائمة ــ قد تساعد على الشفاء والخلاص ، ولكن حينما تأخذ هذه المسألة طابعا أو بعد جماعيا متغلبا فحتى العلاج سيكون ضربا من الفشل أو العبث ..ومن المؤكد إن لهذه الظاهرة السائدة للتآخي مع الموت والموتى لها أسبابها و جذورها التاريخية من مراحل فقر و حرمان و قمع وطغيان وتناحر اجتماعي ـــ على فئوي ــ على عقائدي ـ إضافة إلى الحروب المتكررة والمجازر الجماعية العديدة التي عاشها فجائعها المجتمع العراقي عبر دهور وعصور ..هذا دون أن ننسى أن نضيف إلى إن المرحلة المضطربة التي تلت بعد سقوط النظام السابق ، رافقتها عملية التضييق على متنفسات التسلية الاجتماعية والترفيه ، من جراء إغلاق دور السينما إهمال المسارح ، و النوادي الاجتماعية ، التي كانت تشكل سابقا عملية تنفيس و ترفيه للناس من ضغوطات الحياة اليومية ، مقابل ذلك انفتحت ــ حصريا ــ أمام الناس مداخل المقابر و وبوابات المراقد والأضرحة ، فضلا عن “أكتشاف ” أضرحة جديدة و جديدة ، نشدانا لقضاء الوقت أو” التنفيس الروحي ” من نوع آخر تماما ! ..الأمر الذي كرّس هذه المازوخية الروحية لتصبح أشبه ما تكون بإدمان مزمن ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى