مقالات

الله والإنسان

حمزة مصطفى

لا أحد ينكر أن كل ما نتمتع به من تطور جاءنا من الغرب من “الخيط للمخيط” كما يقال. إذا أردنا أن نعدد نتعب. القلم الذي كنا نكتب به قبل الكومبيوتر الذي نطبع عليه الآن مقالاتنا صناعة غربية.

المطبعة التي نقلتنا الى واقع آخر وصلتنا من الغرب بعد أن كان حجبها عنا العثمانيون ثلاثة قرون كاملة, الى أن أصبحوا رجلا مريضا تقاسم المنتصرون بعد الحرب أسلابهم. السيارة سواء تلك التي كان يتم تشغيلها بـ “الهندر” وفيما بعد بالبطارية والآن بالبصمة والتي قلصت المسافات جاءتنا منهم. السيارة الكهربائية التي بدأت تغزو معارضنا جاءتنا من ماسكهم وأيولنهم. الطائرة التي قلصت مسافات المسافات جاءتنا منهم بعد محاولة فاشلة لعباسنا إبن فرناسنا الذي تحول الى مجرد ساحة على طريق مطار بغداد. الهاتف النقال الذي الغى المسافات داخل المسافات ونقلنا مما كان يسميها عمنا توفلر القرية الكونية الى شيء آخر “عجيب والله عجيب” هو عبارة عن شريحة تحمل ملايين الكتب والتطبيقات والفيديوات جاءنا منهم. لو كان عمنا الجاحظ يملك مثل هذه الشريحة لما سقطت عليه كتبه وقتلته. بدورنا ماذا قدمنا لهم؟ إبن رشد “أكو غيره؟”. على حد علمي لا. إبن رشد فيلسوف عظيم نقل لهم ارسطو “هناك من يختلف حتى على هذا الرأي”. ومن أرسطو اعادوا لنا تصدير إبن رشد مقرونا بأرسطو ثانية عبر منظومة فلسفية معرفية كاملة متكاملة جمعت بين كل صيغ التقدم والتطور بدءا من غاليلو وديكارت وقبلهم كوبرنيكوس وثورته العلمية. ومع كل ما قدمه الغرب من منظومة فكرية فلسفية علمية فإنه وفي سياق العلاقة بين الدين والدولة والمجتمع بقيت مقارباته محكومة مرة بالصراع بين الكنيسة والدولة ومرة داخل قوى المجتمع المختلفة من مفكرين ومثقفين ومصلحين وسواهم. وهو أمر بات من الصعب السيطرة عليه بعد أن بدأت عملية التطور تأخذ سياقا تراكميا حادا على كل الصعد والمجالات في محاولة للبحث عن مقاربة بين التطور العلمي الهائل والبعد الأخلاقي له. فمفكر مثل كارل ماركس وزميله إنجلز كانت لهما رؤية على صعيد تغيير المجتمع عبر المادية الديالكتيكية تختلف عما طرحه فيما بعد مفكرون آخرون من بينهم ماكس فيبر في “البروتستانية والأخلاق الرأسمالية” وغيره وصولا الى أسنولد شبيغنر الذي أعلن في وقت مبكر من القرن الماضي ما أسماه “تدهورالحضارة الغربية”. لكن كل هؤلاء المفكرون وسواهم حتى الملحدون منهم لم يفكروا لحظة بالإعتداء على الذات الآلهية او على ماهو حصري لله. ومع أن الدول والإمبراطوريات الغربية عانت حروبا وأهوالا طوال القرون الثلاثة الماضية لكن ماكنة التطور كانت تسير بوتائر متصاعدة في وقت كانت مجتمعاتنا خاملة ساكنة لكنها محتفظة بمنظومة قيم أخلاقية بسياج ديني محكم يتمثل بالدين الإسلامي ومنظومته القيمية التي بات العالم اليوم أحوج مايكون اليها. ففيما جرى الفصل بين الدين والدولة في الغرب وهو ما جعل للكنيسة سلطة إعتبارية الى حد كبير فإن الدين الإسلامي بقي حاميا لسلم القيم المجتمعية حتى عندما بدات النهضة العربية بسياقاتها المختلفة, وعلى الرغم من كل ما اثير من جدل وخلاف حول الماضي والحاضر, أو التراث والمعاصرة, أو حتى القطيعة المعرفية فإن العلاقة بين الدين والدنيا بقيت محكومة بسياق من الفهم لا إعتداء فيه على الحق المطلق الذي يمثله الدين. ماذا عن اليوم؟ سؤال ليس معقدا لكن الإجابة عنه لابد أن تكون إشكالية كونها تحمل الشئ ونقيضه معا. فمن جهة لابد من القول إنهم يتقدمون ويتطورون ونحن مازلنا في العربات الخلفية من قطار التقدم والتطور هذا الذي مقوده لايزال بيد الغرب. إذن نحن حيال معادلة تقدم وتطورتكمن فيهما إشكالية العلاقة بيننا وبينهم لجهة كيفية إستخدام العلم وتقنياته لأغراض التقدم في المجال العلمي والى أي حد يمكن ضبط إيقاعه لأغراض التطور المجتمعي والإنساني. في مجال التقدم العلمي وتقنياته لاتزال الريادة للغرب في كل الميادين والمجالات. لكن في ميدان التطور وسياقاته الإنسانية والمجتمعية فإن هذه العلاقة بدأت تنحدر نحو قاع بل هوة عميقة سحيقة على كل المستويات بحيث بات الجميع الآن يقف حيال سؤال يتعلق بالنوع الإنساني طبقا لما أراده الله سبحانه وتعالى وليس مجرد “جندر” يحاول الغرب عبر مختلف مختبراته ومجالاته ومالاته الدفاع عنه لجهة المساواة بعيدا عن الفطرة البشرية التي تتعلق بالذكر والأنثى على مستوى النوع لا الجندر. الله سبحانه وتعالى يقول في القران الكريم ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”. ويقول “وإنه خلق الزوجين الذكر والانثى”. ويقول “فجعل منه الزوجين الذكرى والأنثى”. ويقول أيضا “أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً”.

هذه هي الفطرة البشرية ولا شيء سواها بينما بدأت تنتشر وعلى نطاق واسع ومنظم تيارات بل ودول وازنة في الغرب إما للدفاع بشكل مستميت عن “الشذوذ” و”المثلية” الى حد العمل على تسويقها بين الأطفال, أو الصمت خوفا من المواجهة والتصادم معها بذريعة متهافتة هي الحرية. بلاشك أن هذه القضايا الخطيرة لا علاقة لها بحرية التعبير بل هي إعتداء صريح على الفطرة البشرية والنوع الإنساني مثلما أراده الخالق. بل إعتداء على الخالق نفسه الذي طالما أباد أمما وشعوبا في الماضي لأنها تحدت ما هو حصري لله. فالله سبحانه لم يخلقنا عبثا بوصفا رجالا ونساء او ذكورا وإناثا, كما لم يخلق الكون عبثا. وبصرف النظر عن الرؤى المختلفة في الغرب بشأن ذلك فإن ماقاله البابا فرنسيس بأن الشذوذ والمثلية “خطيئة لكنها ليست جريمة” أمر يمكن أن يدخلنا في جدل عميق بين مفهومي الخطيئة والجريمة. لكن بما أن المجال لم يعد يتسع فلابد من إفراد مساحة أخرى للحديث عن حدود الخطيئة والجريمة. في الواقع نحن حيال إشكالية كبرى أوقع الغرب نفسه فيها ولايعرف هو ولانعرف نحن كيفية الخروج منها قبل وقوع الغضب الإلهي.

كما أن الغرب أوقع نفسه في إشكالية أخرى هي الذكاء الإصطناعي وما سوف يتركه من تداعيات خطيرة على الإنسان فطرة ونوعا وقدرات وطاقات. الذكاء الإصطناعي هو الدائرة المغلقة التي ستجعل الإنسان يدور فيها باحثا عن طريق طوارئ للخروج.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى