مقالات

النظام الرأسمالي ما بعد كورونا، هل من جديد؟

كاظم حبيب

في ضوء مقال السيد الدكتور مظهر محمد صالح

برهن النظام الرأسمالي، على صعيد الدول الكبرى، لاسيما في المراكز الإمبريالية الثلاثة، وعلى الصعيد الدولي، عن عجزه، منذ أن بدأت الأزمة البنيوية الحادة في النصف الثاني من العقد الثامن من القرن العشرين عن معالجتها، رغم محاولته إيجاد حلول لها عبر نهج النيولبرالية، ورغم الدور المساعد والكبير الذي مارسته الثورة العلمية والتقنية ومنجزاتها ومن ثم ثورة الإنفوميديا والثورة الرقمية، إضافة إلى العولمة الرأسمالية. وقد ظهر هذا العجز في فترة الأزمة المالية والاقتصادية عام 2008/2009، وفي أزمة وباء كورونا (كوفيد-19) الجارية بصورة جلية.

وهذا الواقع هو الذي سيدفع بقوى رأسمالية أكثر وعياً بالنظام الرأسمالي وقوانينه وفعلها وأكثر رغبة جارفة في تحقيق المزيد من الأرباح وتدوير الفوائض المتحققة حتى الآن في فروع اقتصادية جديدة إلى التحرك صوب إحداث تغيير جوهري في بنية الإنتاج في الرأسمال المركزي، في المراكز الرأسمالية الثلاثة، إضافة إلى الصين وروسيا.

وقد بدأت تطرح دراسات مهمة في دول كثيرة لمعالجة هذه الأزمة أو اكتشاف طرق معالجتها وتجاوز انهيار الرأسمالية في أعتى مواقعها في الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص، حيث هناك من الدلائل ما يشير إلى ذلك، بما فيها الحركة السياسية-الاجتماعية التي ساندت ترشيح بيرني ساندرز في الحب الديمقراطي وفي استقطابه نسبة عالية من الناخبين إلى جانب الأفكار السياسية والاجتماعية المهمة التي طرحها، سواء أكان بشأن أزمة الديمقراطية وتفاقم غياب العدالة الاجتماعية والبطالة، أم العجز الفعلي عن مواجهة وباء كورونا. والمشكلة المركزية في النظام الرأسمالي العالمي تتجسد يوماً بعد آخر في التناقض الجوهري بين الطابع الاجتماعي لقوى الإنتاج والطابع الخاص لملكية وسائل الإنتاج وتجليات ذلك في الصراع بين العمل ورأس المال، بين الأجر وفائض القيمة.. الخ.

في هذا الواقع المتأزم، الذي عمقته أزمة وباء فيروس كورونا، بادر الزميل الأستاذ الدكتور مظهر محمد صالح إلى طرح مقالة تحليلية مهمة للرأسمالية المركزية تحت عنوان “الرأسمالية المركزية: من الصراع الطبقي الى التحول الاجتماعي – رؤية استشرافية لما بعد كورونا”، تحمل أفكاراً جديدة تستحق المناقشة. ففي عرضه أشار إلى التحولات المحتملة في مسيرة الرأسمالية الاحتكارية ورآها في مرحلتين: المرحلة الأولى حيث يعيش العالم حالياً ويخوض كفاحاً ضد وباء كورونا وفي صراعات متنوعة سنأتي عليها، والمرحلة التالية للرأسمالية التي يطرح بشأنها أفكاراً عن فترة ما بعد وباء كورونا، في محاولة جادة لاستشراف التحولات المحتملة في العلاقات والصراعات الرأسمالية في أعقاب وباء كورونا،

هذا الوباء الذي أماط اللثام بشكل صارخ عن طبيعة النظام الرأسمالي العالمي وعرّى الجشع الاستغلالي للرأسمالية الاحتكارية ونهجها في الركض وراء أقصى الأرباح مهما كانت العواقب على المجتمعات البشرية وحاضنتها الطبيعة،

خرج باستنتاج استشرافي جرئ بقوله: ان الصراع داخل معسكر راس المال المركزي سينتقل ويتوزع مباشرة بين سياسات الحكومة والقوى العاملة العاطلة والرأسمالية الخاسرة من جهة وتحوله الى صراع داخلي مع الرأسمالية الصحية الاحتكارية والقطاعات الواسعة الملحقة بها من جهة اخرى، مما ستولد جهة صراع اجتماعي قوية تتحالف فيها القوى العاملة والرأسمالية الحقيقية المتضررة من الاحتكارات الرأسمالية الصحية…

وهنا تأتي التسوية التاريخية بغية استقرار التكاليف في القطاعات الاخرى المنتجة والقضاء على مظاهر الركود التضخمي وتحويل فوائض القطاع الصحي واعادة توزيعها الى مشاركة انتاجية في

القطاعات الاخرى وهي بداية النهاية للنظام الرأسمالي الامبريالي الراهن برمته ونشوء الرأسمالية الاجتماعية social capitalism الاكثر استقراراً وازدهاراً.” (من نص المقال).

نشر المقال في موقع الحزب الشيوعي العراقي بتاريخ 10 نيسان 2020، كما بنفس التاريخ في موقع الحوار المتمدن تحت العدد 6534). إن هذا التشخيص يحتاج إلى مناقشة جادة بالارتباط مع العنوان الذي ينفي وجود الصراع الطبقي في المرحلة الثانية حين يتحالف العمال مع الرأسماليين في القطاع الخاسر، أي قطاع الإنتاج غير الصحي!

أود هنا أن أبرز بعض التشخيصات ذات المضمون النظري التي توصل إليها استناداً إلى الواقع المعاش في ظل الرأسمالية الاحتكارية الدولية والتي هي بحاجة إلى مزيد من النقاش والشرح والتفصيل والتدقيق لكيلا يبقى بعضها تجريداً يصعب التكهن به أو في وجهته، كما أتمنى على الزميل مظهر أن يبادر هو الآخر في شرح وتوضيح بعض جوانب مقاله المهم.

أولاً: كتب الزميل “.. ثمة صراعين في قوى الانتاج وعلاقات الانتاج ويمثلان أساس البنية التحتية للمادية التاريخية historical materialism لمرحلة ما بعد الازمة الصحية (كورونا) وهما صراع قوة العمل مع المرض من اجل البقاء وحقوقه في تعظيم الاجر التعويضي عن خسارة ساعات العمل وارتفاع تكاليف العيش ضد الوباء، وصراع آخر هو اشد خطورة داخل معسكر رأس المال نفسه يتمثل بالصراع من اجل البقاء على تقاسم الفوائض التي تتراكم في مرحلة الحرب ضد كورونا.” (من نص المقال).

ابتداءً أود الإشارة إلى واقع التناقض المتفاقم في الرأسمال المركزي، في المراكز الرأسمالية المتقدمة، بين الطابع الاجتماعي للقوى المنتجة، وبين التملك الرأسمالي الخاص لوسائل الإنتاج، التي لم تعد ملكية فردية خالصة، بل هي ملكية شركات احتكارية خاصة ورأسمالية مالية إمبريالية متقدمة يراد الحفاظ على ديمومتها لتحقيق مستمر لفائض القيمة والمزيد منه.

وهذا التناقض سيدفع لا محالة في قادم السنين والعقود إلى صراعات وتحولات جذرية لصالح تحقيق التوافق والتفاعل بين الطابع الاجتماعي للإنتاج، قوى الإنتاج، من جهة، وبين ملكية وسائل الإنتاج الاجتماعية، وبالتالي أن يكون الإنتاج بيد المجتمع ولصالحه من جهة ثانية.

والوصول إلى هذه المرحلة يمكن أن تمر بصيغ مختلفة، ربما تكون الصيغة التي رآها الدكتور مظهر هي خطوة أولى على هذا الطريق والتي عبر عنها بالرأسمالية الاجتماعية، أو اقتصاد السوق الاجتماعي، الذي يبقى في جوهره رأسمالياً استغلالياً، ومساومة لا تتقاطع بالضرورة مع استغلال الشعوب الأخرى، منها شعوب الدول النامية، علماً بإن شعوب البلدان النامية تشكل جزءاً مهماً ومحورياً في التناقض والصراع الأساسي في الرأسمالية.

لا أشك في أن الصراعات بين الاحتكارات الرأسمالية في القطاعات الإنتاجية غير الصحية وفي القطاعات الإنتاجية والخدمية الصحية التي أشار إليها الزميل الدكتور مظهر محمد صالح ستتفاقم بسبب الركود التضخمي الذي حصل وما زال سارياً في القطاعات غير الصحية نتيجة إيقاف الإنتاج في القسم الأعظم من القطاعات الإنتاجية غير الصحية،

والتي تعني بروز عدة مؤشرات سلبية تتسبب بأضرارٍ بالغةٍ حالياً وفي الفترة القادمة: توقف أو ركود فعلي في الإنتاج وتباطؤ في معدلاته، تفاقم البطالة، رغم اللجوء إلى تقليص ساعات العمل في بعض القطاعات، ارتفاع تضخمي سريع في أسعار السلع والخدمات، إضافة إلى انخفاض شديد في القدرة الشرائية للفقراء والكادحين وصغار الموظفين، والذي يمكن أن يقترن بإصدار المزيد من العملة لتأمين السيولة النقدية في السوق دون غطاء فعلي.

وهنا ستتدخل الدولة الرأسمالية لحماية الرأسمالية الاحتكارية عموماً والمعرضة للمخاطر خصوصاً من الانهيار الكلي أو تفاقم التنافس، وأقصد هنا السلطتان التنفيذية والتشريعية لتحقق نوعاً من التوازن النسبي، كما فعلت هذه الحكومات في الأزمة المالية والاقتصادية

لعام 2008/2009 والتي لا تزال آثارها السلبية فاعلة في كل الدول الرأسمالية على حساب دافعي الضريبة. أي ستبذل حكومات هذه الدول ومجموعة السبعة وتبذل جهوداً استثنائية لإيجاد توازنٍ مريحٍ نسبياً للاحتكارات الرأسمالية في القطاعات الصحية وغير الصحية وتخفيف المنافسة بينهما،

رغم الميل العفوي لصالح القطاعات الصحية الذي سيحقق أقصى الأرباح وسيسحب فوائض من القطاع غير الصحي، ولكنه سيبقى في إطار العلاقات الرأسمالية الاحتكارية على الصعيد العالمي ولصالحها.

إن حركة رؤوس الأموال ستتوجه صوب القطاعات الأكثر ربحية وستُهمل قطاعات أخرى، ولكن سيحصل عنق زجاجة في سلع وخدمات في قطاعات أخرى مما سيرفع من الطلب عليها وسيرفع من أسعارها بشكل تضخمي، وسيدفع بدوره إلى تدفقات رأسمالية جديدة صوب تلك القطاعات أو المنتجات التي ستحقق بدورها متوسط الربح المطلوب أو تزيد عليه.

إنها حركة تفرضها حركة السوق وقوانين العرض والطلب، كما في حالة قطاع النفط ومنتجاته حالياً، حيث ستتقلص التوظيفات التي ستتوجه صوب هذا القطاع لفترة حتى زوال أزمة كورونا ليبدأ الطلب على النفط ومنتجاته من جديد وستعود أسعاره إلى ارتفاع، وسيحتاج القطاع النفطي إلى المزيد من توظيفات رؤوس الأموال من الفوائض التي تحققت في قطاعات أخرى.

ولا شك في أن حصول تدوير جديد للأرباح صوب مشاريع الطاقة البديلة عن النفط، كما حصل مع الفحم مثلاً، وهو جزء من المشاريع الجديدة لحماية البيئة، والتي ستنافس القطاع النفطي التقليدي في المدى المتوسط والبعيد.

ثانياً: كتب الزميل د. مظهر محمد صالح إنها “مرحلة مبكرة ابتدأت فيها قطاعات رأسمالية جديدة تتمحور حول ملاذات شديدة الكثافة الربحية والعائد على رأس المال لإنتاج الفائض الرأسمالي السريع على حساب خسارة وركود قطاعات امست ضحية لمرض كورونا وتعطل النشاط الانتاجي فيها وتولدت لديها محددات وقيود تنظيمية وعمالية واجرية جديدة لمصلحة استرخاء وبزوغ رأسمالية محتكرة رابحة جديدة يمكن تسميتها (بالإمبريالية الصحية health imperialism )

ذلك وبمختلف مؤسساتها التكنولوجية والتمويلية والانتاجية لتصبح تلك الامبريالية نمط انتاج رأسمالي مختلف لعالم جديد متفوق في انتاج سلاسل دوائية لا تنتهي وانماط تغذية تتسع مع تراكم فوائض وارباح الامبريالية الصحية نفسها.” (من نص المقال).

يؤكد الزميل هنا، كما يبدو لي، ما يلي: أن تحقيق أقصى الأرباح وتدويرها بمعدلات تراكم عالية صوب القطاع الصحي الاحتكاري، يقود إلى نتائج سلبية للقطاعات الإنتاجية الأخرى غير الصحية.

فأين ستتوجه الفوائض المتحققة لرأس المال؟ إن الفوائض (الأرباح) المتحققة ستتوجه، بل توجهت فعلاً، صوب تلك القطاعات التي أهملت نسبياً وكانت احتكارية ايضاً، رغم قدرتها على تحقيق الأرباح للرأسمال الاحتكاري العالمي، ورغم كونها أكثر نفعاً للمجتمعات البشرية. ولكن القطاعات غير الصحية كانت أكثر ربحية مع إن بعضها الكثير أكثر إيذاءً للمجتمع البشري.

نعم هذه الحالة حصلت منذ الآن وستزداد في قادم الأيام. ولكن لا بد للباحث من التمييز بين القطاعات التي يطلق عليها حالياً بالقطاعات غير الصحية، إذ بعضها سيستمر بالحصول على نسبة عالية من الفوائض الاقتصادية بالارتباط مع السياسات الدولية التي تمارسها الدول الكبرى والمعبئة للصراع وتنشيط الخلافات والنزاعات الدولية. من هنا أقول إن هذا الاستنتاج صحيح، ولكن ليس بالمطلق بأي حال. كما إن التوجه صوب القطاع الصحي الاحتكاري أساساً، ليس من باب الإنسانية وشعور الرأسماليين الاحتكاريين في المراكز الرأسمالية بضرورة حماية الإنسان من مخاطر الأمراض والأوبئة،

وهم الذين كانوا وما زالوا على استعداد تام لخوض الحروب المدمرة والتي يموت فيها الملايين ويتشرد كثير من البشر بهدف الحصول على مناطق النفوذ والأرباح، بل لأن هذا القطاع سيوفر لهم في العقود القادمة المزيد من الأرباح،

لاسيما وأن الإنتاج الراهن يتسبب في نشر المزيد من الأمراض والأنواع الجديدة من الفيروسات ويلحق أضراراً فادحة بالبيئة والإنسان. إن تدوير الأرباح بمعدلات عالية نسبياً صوب رأس المال الصحي وتحقيق المزيد من التراكم فيه قد بدأ منذ الآن باتجاهات اربعة أساسية:

1) توظيف المزيد من رؤوس الأموال في إقامة وتجديد وتنويع مراكز البحث العلمي والمختبرات لتطوير المزيد من أجيال وسلاسل جديدة ومتطورة للعقاقير الطبية المتنوعة واللقاحات الجديدة، وكذلك تطوير الأجهزة والمعدات الطبية والوقائية التي برزت حاجتها الراهنة وارتفاع الطلب عليها…الخ.

2) إنتاج سلالات جديدة من الأدوية، لاسيما اللقاحات، وما يتصدى لوباء كورونا، واحتمال بروز فيروسات جديدة، بسبب استمرار إنتاج المزيد من أدوات الموت والقتل والتدمير في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، وفي استخدام إنتاج أسلحة الموت المتنوعة من القنابل النووية بأحجامها وقوة تدميرها المتنوعة ولحروب إقليمية “سلاح نووي منخفض الطاقة”، وأخرى لحروب دولية،

إضافة إلى إنتاج الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، بالرغم من تحريمها، وإنتاج العديد من العتاد التقليدي المنضب باليورانيوم، كما في تلك الخراطيش التي استخدمت في حرب الخليج الثانية 1991 في الصحراء الكويتية – العراقية، أو إنتاج الفيروسات القاتلة لحرب محتملة قادمة… والتنوع في إنتاج الصواريخ البالستية، أو في استخدام المزيد من المبيدات في الإنتاج الزراعي…الخ.

3) إيلاء اهتمام أكبر بالقوى العلمية والطاقات الفنية العاملة في المجالات الصحية والبيئة بهدف سحب المزيد من الكفاءات العلمية والقدرات الفنية صوب هذين القطاعين اللذين يحتلان أهمية جديدة واستثنائية في القرن الحادي والعشرين.

4) تدوير الفوائض وتوظيفها في قطاعات اقتصادية إنتاجية وخدمية جديدة ترتبط بالأجهزة الذكية وبتلك التي ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بالقطاعات الصحية والبيئية.

إن هذه الاتجاهات في نشاط القطاعين الصحي والبيئي الرأسماليين الاحتكاريين سيثيران المزيد من الصراعات حول جملة من المسائل الواردة في النقاط الواردة أعلاه، ومنها الصراع بين الرأسماليين في القطاعات غير الصحية. فيشير الدكتور مظهر محمد صالح “أن جميع هذه التحركات في القطاع الصحي الاحتكاري ستظل أداة تقود الصراع بين حقوق العمل والعمال المستجدة لتأمين مقومات الحياة من جهة، وبين معسكر راس المال المتصارع على الفائض نفسه من جهة أخرى”. نحن هنا أمام صراع قوى العمل ضد الوباء،

إذ من المحتمل أن يمتد طويلا، وصراع أساسي بين العمال والرأسماليين، وصراع فيما بين الرأسماليين أنفسهم من أجل تقاسم الأرباح. إن هذين النوعين الأخيرين من الصراعات لم يتوقفا يوماً، رغم بروز مهادنات نسبية في فترات معينة غير خالية من التوترات، كما في فترة وجود الاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية، وهما اليوم في تفاقم بسبب انعدام الرغبة على المساومة من جانب الاحتكارات الرأسمالية على حصتي الأجر وفائض القيمة أو الربح، والضغط المتفاقم على الأجور لصالح فائض القيمة بمختلف تسمياته، وضعف الطبقة العاملة ونقاباتها في تشديد النضال لانتزاع الحقوق.

ومن ثم الصراع فيما بين الرأسماليين بهدف الحصول على أقصى ما يمكن من الفوائض لكل منهم من خلال إدخال تغيير في توزيع رأس المال بين رأس المال الثابت (وسائل وأدوات الإنتاج) وبين رأس المال المتحرك أو العمل الحي (قوة العمل) أو الأجر، في القطاعات التي تتوجه توظيفاتهم إليها، وما ينشأ عن ذلك من احتمال المزيد من العاطلين عن العمل، بسبب إدخال المزيد من التقنيات الأكثر حداثة في العمليات الإنتاجية والتقنيات الذكية.

وسيكون هذا الصراع على أشده في مرحلة التحولات البنيوية للرأسمالية الجارية والتي ستتنامى في أعقاب كورونا، بل ومنذ الآن. وهنا لا بد من الإشارة إلى إن هذا الصراع لن يكون بالمطلق، لأن جزءاً مهما من الفوائض سيذهب صوب الرأسمال الصحي والبيئة والطاقة البديلة، وسيبقى قطاع صناعة الأسلحة، والقطاعات التي ترتبط به وتنشأ عنه،

تستحوذ على نسبة مهمة بل وعالية من فوائض الأرباح السنوية، كما إن جملة من الصناعات التي تبدو الآن ضحية كورونا ستعود إلى عملها في أعقاب تراجع الفايروس مع إنتاج اللقاحات والمضادات الضرورية ضد هذه الفايروس. إن الصراع بين الرأسمال الصحي والرأسمال الموظف في القطاعات الإنتاجية الأخرى، وبما يشمل الرأسمال المتحرك المستخدم في

توظيف القوى العاملة لم يكن في صالح القطاع الصحي الإنتاجي والخدماتي والبحثي، كما لم يكن في صالح البيئة. وفي هذه القطاعات سيأخذ الصراع بين المنتجين ونقابات العمال، التي تدافع عن مصالح العمال حقاً وبين الرأسماليين الاحتكاريين، مكاناً مهماً لها في المرحلة القادمة، إنه الصراع المعروف بين العمل ورأس المال، بين نسبتي الأجور وفائض القيمة في القيم المنتجة في هذه القطاعات. كما سيتفاقم الصراع فيما بين الرأسماليين أنفسهم.

من المفروض أن يتوجه البحث العلمي في الفترة الراهنة والقادمة صوب مجالين مهمين وأساسيين هما: قطاع صناعة الأدوية واللقاحات وما إليها أولاً، وصوب الأجهزة والمعدات الطبية الضرورية لتطوير العلاجات الطبية لمواجهة الأمراض والأوبئة الجديدة المحتملة التي تفرزها صناعة السلاح والعتاد والأسلحة الكيمياوية والجرثومية، وكذلك الصناعات النووية ومخلفاتها والتلوث المتعاظم لبيئة الإنسان والحيوان والنبات ثانياً. ولا شك في أن جزءاً من الفوائض أو الأرباح سيُدور صوب قطاع البيئة أيضاً الذي سيزداد تعقيداً وصعوبة في ظل الجشع الرأسمالي، كما في انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس حول التغير المناخي، وفي إهمال مستمر للبيئة وتدمير مناطق العيش لكثرة من المجاميع البشرية، لاسيما التدمير المستمر للغابات الطبيعية وتلوث البيئة والإنتاج الزراعي.

والجدير بالذكر إن الرأسمالية الاحتكارية في مراكزها المتقدمة والإمبريالية القديمة تعاني منذ نهاية القرن الماضي حتى الآن من أزمة بنيوية حادة ومستمرة تتفجر بأزمات متنوعة بين فترة وأخرى،

كما في الأزمة المالية والاقتصادية الكبرى التي تفجرت عام 2008 والتي ما تزال عواقبها مستمرة حتى الآن وفي جميع الدولة الرأسمالية المتقدمة، ومنها دول الاتحاد الأوروبي، وبالتالي فأن جزءاً مهماً من الرأسماليين الاحتكاريين العاملين في القطاع الصحي وغيره يرون في أزمة وباء كوريا منفذا ومناسبة لمعالجة الأزمة البنيوية التي تعاني منها الرأسمالية المركزية من خلال توجيه المزيد من التوظيفات صوب هذا القطاع وما تنشأ عنه وما ترتبط به من منشآت وخدمات وتقنيات جديدة. وبالتالي فهي في صراع دائم حول مجالات توظيف أرباحها لتحقيق التراكم المنشود وما يدره من أرباح جديدة لصالحها.

كما لا شك في أن الاحتكارات الناشطة في مجل القطاعات غير الصحية ستسعى على تطوير تقنياتها الذكية بما يسهم في تقليص العمل الحي ويرفع من الإنتاجية ويقلص تكاليف الإنتاج ويحقق على أقل تقدير المتوسط العام للربح.

ثالثاً: لم تكن ظاهرة العولمة من صنع إرادي للاحتكارات الرأسمالية في الدول الرأسمالية المتقدمة، بل إن العولمة عملية موضوعية مرتبطة بالثورة العلمية والتقنية، بثورة الإنفوميديا، والتي لا مناص منها. ولكن العولمة التي تواجهنا بقوة متزايدة منذ الربع الأخير من القرن العشرين هي في واقع الحال من صلب النظام الرأسمالي العالمي ومن طبيعته الاستغلالية،

وهي تطور طبيعي، ولكن يستخدم بصورة غير عقلانية وأنانية جشعة من جانب الرأسماليين لصالحهم وضد الطبقة العاملة وكل المنتجين للخيرات المادية والروحية، ضد شعوب البلدان النامية، بل وضد المجتمع البشري. وقد برهنت العقود الثلاثة المنصرمة على إن العولمة الرأسمالية،

وفي ظل النيولبرالية، لم تُستخدم لصالح الإنسان في كل مكان، بل لصالح تحقيق المزيد من الأرباح للشركات الاحتكارية الكبيرة. من هنا ستجري إعادة النظر لا في تركيز رؤوس الأموال في صناعات معينة فحسب، بل وفي توزيع رؤوس الأموال جغرافياً، بما لا يسهم في بروز أعناق زجاجة للكثير من المنتجات الأساسية للمجتمع في ظروف معينة،

كما هو الحال بالنسبة للكثير من المنتجات المرتبطة بالصحة العامة ومواجهة الأوبئة المحتملة. وهي تحصل لا من منطلق حماية الإنسان ومصالحه بل من أجل تحقيق اعلى ربحية ممكنة. إن ما طرحه الدكتور مظهر محمد صالح سليم ووارد وهو موضوع مطروح للمناقشة حالياً في ألمانيا وفي كثير من الدول الرأسمالية، لاسيما من جانب نقابات العمال والكتاب والصحفيين الديمقراطيين.

على إننا يفترض أن نلاحظ بأن قوى اليمين المتطرف والنازية الجديدة في كل مكان تحاول التصدي للعولمة من منطلق قومي ضيق وبرجوازي متخلف، وهي ليست ضد الهيمنة على العالم لو تسنى لها ذلك في الدول الأكثر تقدماً. لهذا فهي تقف ضد التيار، ولكنها عاجزة عن إيقاف

سير العملية. إن النضال يفترض ان يتوجه صوب العولمة بمضمونها الرأسمالي الاحتكاري الأكثر جشعاً وعدوانية، وليس العولمة كعملية موضوعية مرتبطة بالتحولات الهائلة والتطور الكبير في القوى المنتجة مع واقع تناقضها مع طبيعة علاقات الإنتاج القائمة على الملكية الخاصة الرأسمالية الاستغلالية.

علينا أن ننتبه هنا أيضاً إلى واقع التناقض المتفاقم في المراكز الرأسمالية المتقدمة بين الطابع الاجتماعي للقوى المنتجة وبين التملك الخاص لوسائل الإنتاج، التي لم تعد ملك فردية بل ملكية شركات احتكارية خاصة ورأسمالية مالية متطورة. وهذا التناقض سيدفع لا محالة في قادم السنين والعقود إلى تحولات جذرية لصالح تحقيق التوافق والتفاعل بين الطابع الاجتماعي للإنتاج، قوى الإنتاج وبين ملكية وسائل الإنتاج، لصالح المجتمع.

ويمكن أن يكون الخطوة الأولى على هذا الطريق هو ما أشار إليه السيد الدكتور مظهر محمد صالح الرأسمالية الاجتماعية، أو اقتصاد السوق الاجتماعي، الذي يبقى في جوهرة رأسمالي استغلالي ولا يتقاطع مع استغلال الشعوب الأخرى، منها شعوب الدول النامية، ولكن ليس كما يتصوره في توقف الصراع الطبقي في ظل التحول الاجتماعي!

رابعاً: إن أزمة وباء كورونا حالة جديدة لم يشهد مثلها وبهذه الحدة العصر الحديث، في حين عاشت البشرية أنواعاً أخرى من الأوبئة مثل وباء الطاعون أو الجذام… التي أفنت نسبة غير قليلة من البشر، إضافة إلى الحروب الدوية التي هي من صنع الرأسمالية الاحتكارية الإمبريالية.

وفي قناعتي، وبالنسبة للبلدان الرأسمالية المتقدمة، سيكون الوضع بعد كورونا غير ما كان عليه قبل كورونا من جوانب عدة، بما في ذلك دور الاقتصاد الرمزي token economy (نظام االحوافز) بجوانبه النفسية والاقتصادية والاجتماعية وممارسة الوسائل والسبل المناسبة للتأثير على سلوك الأفراد والمجتمع، منها مثلاً: أنماط الاستهلاك للسلع والخدمات، الموقف من حماية البيئة ومن عواقب الإنتاج الحربي والصناعات المضرة بالبيئة أولاً، ومن ثم النزعة الاستهلاكية المتفشية في هذا العالم وسبل تعديلها بما يقلص الهدر بالموارد الأولية، ونوعية العيش في المجتمع ثانياً،

إضافة إلى تغيرات محتملة في العلاقات الاجتماعية فيما بين الناس. فالأوضاع النفسية التي نشأت في كل المجتمعات التي عانت وما تزال تعاني من وباء كورونا بسبب فرض العزلة والبقاء في البيوت ومنع الاختلاط وفرض حالات الطوارئ في أغلب العواصم في العالم، إضافة إلى البطالة التي برزت بأسطع أشكالها سلبية …الخ، ستقود كلها إلى استخلاص الدروس والعبر وإجراء تحولات معينة في سلوك الدول والحكومات التي تحترم شعوبها، وفي سلوك البشر أنفسهم، وهو ما يمكن مراقبته خلال الفترة القادمة.

لا أتوقع تغيرات كثيرة في الدول النامية ومنها دول مثل العراق وإيران والسعودية وباكستان ودول عربية وأفريقية وآسيوية كثيرة أخرى، بسبب طبيعة الدول والحكومات المستبدة القائمة فيها، والنهج السياسي والاجتماعي المناهض عموماً للعقلانية وللإنسان وحقوقه فيها وللبيئة، إضافة إلى الفساد المستشري والتمييز ضد المرأة في هذه الدول. ولكن حتى في الدول الرأسمالية المتقدمة ستواجه التغيرات الضرورية مقاومة غير قليلة وصراعات محتدمة.

خامساً: إن الاستنتاج الذي خلص إليه الدكتور مظهر يشير إلى تفاؤل كبير في أن يترك الصراع الطبقي مكانه للرأسمالية الاجتماعية، إذ يقول “وهنا تأتي التسوية التاريخية بغية استقرار التكاليف في القطاعات الاخرى المنتجة والقضاء على مظاهر الركود التضخمي وتحويل فوائض القطاع الصحي واعادة توزيعها الى مشاركة انتاجية في القطاعات الاخرى وهي بداية النهاية للنظام الرأسمالي الامبريالي الراهن برمته ونشوء الرأسمالية الاجتماعية social capitalism الاكثر استقراراً وازدهارا”ً.

لا شك في أن الدكتور مظهر يشير إلى الرأسمالية على المستوى العالمي. إذ على مستوى الدول فالأمر لن يكون بالضرورة كذلك، كما أنه على الصعيد العالمي ما يزال بعيداً نسبياً، رغم العلل المريعة التي يعاني منها الاقتصاد الرأسمالي العالمي، لاسيما اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية، إذ ترتبط المسألة بمجموعة من العوامل المهمة، ومنها

الوعي الاجتماعي والسياسي لا في الدول النامية، بل وفي الدول الرأسمالية الأكثر تطوراً، ومنها العديد من الدول الأوروبية واليابان إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. فعلى سبيل المثال لا الحصر بدأت ألمانيا الاتحادية بالعمل على وفق نهج الرأسمالية الاجتماعية منذ أن تسلم الدكتور لودفيغ أيرهاد (1897-1977) مستشارية المانيا الاتحادية في عام 1963 تحدث عن هذا النهج وتحقق ما أُطلق عليه بالازدهار الاقتصادي وبدعم من مشروع مارشال قبل ذاك. ومنذ منتصف الثمانينيات من القرن العشرين بدأت المانيا وفي عهد هلموت كول (1933-2017)، الذي بدأ في عام 1982 الأخذ تدريجياً بنهج النيولبرالية وتفاقم في نهاية العقد التاسع وما زال مستمراً حتى اليوم.

وبعد الوحدة الألمانية تخلت حكومتها عن المساومة النسبية بين العمل ورأس المال التي حصلت في فترة وجود الاتحاد السوفييتي وألمانيا الديمقراطية. ولم يترك الصراع الطبقي مكانه لتعايش سلمي، بل قاد إلى مسألتين بارزتين هما: تفاقم النهج النيولبرالي في السياستين الاقتصادية والاجتماعية الألمانية والذي يتجلى في تنامي عدد أصحاب المليارات والملايين من جهة، وتنامي عدد الفقراء والمعدمين وتفاقم الفجوة بين الأغنياء والفقراء،

وتنامي البرودة في العلاقات الاجتماعية، إضافة إلى إضعاف دور وقدرات الطبقة العاملة ونقاباتها على خوض النضال لانتزاع حقوقها والدفاع عن مصالحها ومكاسبها. إن الدول التي ربما قد تأخذ بنظام اقتصاد السوق الاجتماعي لا يعني أوتوماتيكياً تراجع الصراع الطبقي فيها، بل سيبقى قائماً ما دامت الرأسمالية سائدة أولاً، وما دامت سياسات الدولة تسير على وفق النهج الاحتكاري النيولبرالي ثانياً. إن إمكانية الحصول على مكاسب لصالح المجتمع يتم من خلال تصعيد النضال الطبقي لانتزاع المزيد من الحقوق وإضعاف النهج النيولبرالي في سياسات النظم الرأسمالية وعلى الصعيد العالمي.

اعتقد إن الاستنتاج الأخير فيه كثير من التفاؤل، ولكن هل يتطابق مع احتمالات التطور بهذا الاتجاه؟ الرأسمالية الإمبريالية السائدة حالياً، والصراعات التي تعيشها تضعفها دوماً، لاسيما وأنها خلال العقود الثلاثة الأخيرة قد تلقت ضربات موجعة وفشل ملموس لسياساتها.

ومع ذلك فهي، كما يبدو، ما تزال قادرة على المقاومة، وأنها يمكن أن تتجاوز الصيغة التي يجري التعامل بها الآن صوب الإعلان عن الرأسمالية الاجتماعية من جهة، مع ممارسة الرأسمالية النيولبرالية من جهة أخرى، كما يجري اليوم في ألمانيا وعدد آخر من البلدان الرأسمالية المتقدمة.

إن من الضروري في التحليل الاقتصادي أخذ العامل السياسي وموازين القوى الاجتماعية والوعي الاجتماعي والسياسي بنظر الاعتبار، فهي الخلفية التي يفترض أن يستند إليها التحليل الاقتصادي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى