مقالات

ترهات علمية

ترهات علمية – ياس خضير البياتي

ليست الجامعات في بلداننا وحدها تُنعش الجهل، وتُنتج روث العلم، وإنما هناك منظومات تساهم هي الأخرى في تلويث الحياة العلمية، وتأسيس بيئات مريضة لإضاعة الوقت في ترهات لا معنى لها سوى تحقيق الذات المريضة، والترزق في سوق العلم، وكسب الشهرة الزائفةما يحدث في حياتنا العلمية صواعق ومواحق من النوع الثقيل، وبصيرة قد غشتها طبقات سميكة من الممارسات والمعايير المبثوثة من تلك المنتديات والتجمعات العلمية التي أصبحت وبالاً على المجتمع العلمي، حيث البحوث العلمية التي تتكدس فوق بعضها البعض بعناوين مختلفة غير قابلة للتحقيق، ومكررة ومجترة من بعضها البعض.

واقع مرير لا يبث إلا غاز ثاني أوكسيد العلم، وتوصيات مؤتمرات علمية جوفاء تحفظ في الأدراج، وتأكلها الأرضة مع مرور الأيام . .منذ سنوات تركت عادة حضور المؤتمرات والمنتديات العلمية التي أنشأها البعض للارتزاق، والآخر لضرورات أثبات الوجود، وشهرة القيادة، أو لمعايير التقييم الوزاري. معظمها أنشغل بالدولار وجني ثمار الأرباح المتراكمة. تجارة تفوق تجارة البطيخ والطماطم؛ بحوث المشاركين في هذه الروابط والتجمعات يعاد تدويرها مثل الزجاجات البلاستيكية والورق المقوي ومخلفات الطعام لتصبح كتباً تباع مرة أخرى على الباحثين!لا تسمع في أروقة هذه المؤتمرات إلا على كلمة ” الاستراتيجية” تتنقل بين الباحثين كأغنية مشهورة، حتى تشعر بأنها فقدت معناها الرصين، لتصبح واحدة من نوادر جحا.

وفي كل نهاية مؤتمر أو ندوة تبرز “كليشة” ثابتة تقول لك: لا توجد لنا استراتيجية، ولا حرية بحثية، ولا تمويل بحثي، ولا تنسيق بين المؤسسات. صار عمرنا فوق السبعين ولا نسمع سوى هذه “الطنة” و”الرنة” التي لم تتغير في عصر السيلكون والأقمار الصناعية.هناك عبث علمي آخر؛ شهادات تقديرية بالجملة توزع في أسواق الخردة لمن هبّ ودب.

تحزن عندما تسمع بأن القصاب “أبو علي ” في منطقتنا يرفض استخدام ورقها لكثرة أحبارها الملونة بالأسود والأحمر خوفاً على زبائنه من التلوث. ومؤسسات توزع جوائز للأبطال وخوارق البشر بعناوين غريبة لأفضل باحث علمي أو رقمي لأفضاله في إنعاش الحياة بأوكسجين العلم المهدرج.ما يحدث يشيب الرأس، ويرفع الضغط، خاصة عندما تقرأ خبراً صادما يقول لك: بأن “الفلان الفلاني” منح جائزة الرقمية لهذا العام لدوره الريادي في تطوير البحوث الرقمية، وهو لم يكتب بحثا في الرقمنة، ولا يجيد التعامل مع الكومبيوتر إلا بالتهجي الرقمي! وتسمع أيضاً أطنان من الدروع وشهادات الابتكار والإبداع توزع مجاناً على أنصاف المتعلمين، كأننا نعيش في ضوضاء سوق الصفافير.

صرنا نعيش في عصر تجارة المؤتمرات، ومزادات البحث العلمي التي لا تقرأ إلا عناوين مختلة ومضطربة تذهب بك إلى المجهول العلمي. فلا تشم فيها إلا رائحة التنظير الممل المكرّر، وبيانات لا معنى لها، وهوامش مستله من الفرع وليس من الأصل، وسطو علمي فاضح في اقتباس جمل وأفكار ومصطلحات دون ذكر المصدر.وقد نقل لي الزميل د. هاشم حسن مشكوراً، من باب الوفاء والعلميّة، بأنه نبه عدد من الباحثين في ترأسه لأحدى جلسات المؤتمر العلمي الذي عقد قبل أسابيع في بيروت بضرورة ذكر اسم الباحث الذي استخدم مصطلح (يورانيوم الإعلام) لأول مرة في أدبيات الإعلام من باب الموضوعية والأمانة العلمية. وهو عنوان لكتاب قد أصدرته في نهاية التسعينات باسم (يورانيوم الإعلام: حروب الأعصاب بالتقنيات الرقمية)، حيث استشرفت مبكراً التأثير السلبي للإعلام الرقمي على المجتمعات، قبل أن يصبح اليوم يورانيوم حقيقي يفتك بقيم البشر.وآخر ابتكارات العصر التي دخلت عالم الجامعات، منصة (سكوبس)، وهي قاعدة بيانات تحتوي على ملخصات ومراجع من مقالات منشورة في مجلات أكاديمية محكمة مشتركة في هذا الموقع. ولأن الجامعات تحاول الحصول على التصنيف الدولي، وأن يكون لها موقع متقدم بين الجامعات العالمية، فأنها تجبر باحثيها على النشر فيه من أجل الاستحواذ على الشهرة والموقع لغايات علمية أو تجارية!وهذا المدعو(سكوبيس) الذي جاء لنا “بفعل فاعل ” كما أعتقد، مثل زواحف الأمراض المصطنعة، وإخوان وأخوات الفيروسات المصنّعة، قد أتى هو الآخر تحت غطاء حارس جودة العلم كما يقال. مما أحدث لنا كوارث ومواحق على صعيد النشر العلمي. فأصبح تجارة رائجة لاستغلاله علمياً، وصار موطناً للصفقات التجارية والعلمية، وعاملاً مساعداً لصعود الفاشلين في البحث العلمي.وللتوضيح أكثر، صار (سكوبيس) ملاذاً آمناً للكذب والانتحال والتزوير؛ صارت مكاتب سماسرة العلم تقوم بالواجب العلمي بدلا من الباحث لقاء دولارات خضراء، حيث توضع أسماء الباحثين الفاشلين الذين لا يجيدون اللغة الإنكليزية مع الباحث الأول لقاء عربون صداقة أو لقاء أجر مادي، أو من اجل عيون عميد أو رئيس قسم لصفقة من باب الترضيّة والنفاق.لا أخجل من القول إن هناك معامل لتخصيب البحوث العلمية في بلداننا تؤجر وتشتري وتبيع بالأقساط الشهرية مثل سلف الزواج والسكن، وأقساط الفيلر والبوتكس لتكبير الشفاه وإزالة التجاعيد، وجراحة البواسير.والقصص لا تنتهي؛ حيث هناك اجترار للبحوث، وبيوت علمية لإيواء القاصرين من الباحثين، وقيادات إعلامية جامعية تزرع الجهل والأمية البحثية، ونوادر لوزارة تتحدث عن الجودة العلمية، ووزيرها لا يفقه أبجديات البحث العلمي. مثلما هناك صناعة مؤتمرات دعائية للتنظير والمباهاة والتكسب المادي تقوم بها بعض الجامعات ومراكز البحوث على حد سواء.

هنا أقوم بالتوصيف وليس التعميم. فالعراق منجم العلماء والكفاءات ورجال العلم الكبار عبّر الزمن، لكن الواقع السياسي الفاسد أنتج لنا كمّ كبير من الفاسدين في مجال السياسة والحكم، مثلما أنتج لنا علماً فاسداً معطراً برائحة كريهة تزكم الأنوف. وأكبر فواجع اليوم هو تناسل الجهل على ارض المتنبي وابن الهيثم والكندي وابن ماسويه، وتخريج أفواج الدراسات العليا من وسط ركام الأميّة البحثيّة، وبرامج تسييس العلم. .

فالجامعات ليست وحدها التي تصدر لنا روث الجهل كما يبدو، فهناك منتديات البحوث والمراكز العلمية التي تضلّل الواقع بترهات العلم. مثلما هناك الباحث الذي يؤسس لنا ترهات علمية لا تتفوق مع الأسف على خرابيش “الدكتور” أبو علي الشيباني!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى