مقالات

تقسيم العراق سيناريو ما زال مطروحا على الطاولة

.خالد عليوي العرداوي

ليس جديدا الحديث عن مشروع تقسيم العراق في الساحة السياسية: الإقليمية والدولية، فقد تداولته الكثير من دوائر صنع القرار بالبحث والتحليل والتبشير أو الإنذار، وقد اقترب المشروع كثيرا من التحقق بعد سيطرة تنظيم داعش الإرهابي على أجزاء واسعة من العراق وسوريا بعد منتصف عام 2014. ان هزيمة هذا التنظيم عسكريا واستعادة الأراضي التي سيطر عليها، فضلا على المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية السائدة كانت عوامل كبح غير مساعدة لنجاح هذا المشروع أو المضي في طريق تحقيقه خلال المدة الماضية.

لكن السكوت عن المشروع لا يعني غيابه كليا عن اجندات بعض دوائر صنع القرار في تل ابيب وواشنطن وغيرها من العواصم ذات العلاقة، كما انه لا زال حلما يراود اذهان بعض القيادات العراقية الرافضة لوجودها ضمن خارطة الدولة العراقية الحالية، وما قد يحول الاحلام الى حقيقة على الأرض، ويمهد السبيل لتنفيذ هذا المشروع، بشكل ما، في المستقبل المنظور أمران مهمان هما: اولا-سلوك القادة السياسيين في العراق.قد يرى بعض الأصدقاء والقيادات السياسية في العراق ان طرح موضوع التقسيم يعد استفزازا غير مبرر، وفي وقت غير مناسب، معتقدين ان الأمور في العراق لم تصل الى مستوى التورط بمشروع التقسيم، وان القيادات السياسية للمكونات العراقية الرئيسة: الشيعة، والسنة، والكورد شركاء في حكم العراق، كما هم شركاء في حماية وحدته وسيادته.

ولكن هذا الكلام فيه استغراق كبير في التفاؤل، وتجاهل قليل الذكاء لتدهور الاوضاع في بلدهم، قد يصل الى حد الانكار، فهذه الحجج نفسها تنطوي على قدر كبير من الصحة في جانب، وقدر أكبر من المغالطة وعدم الادراك والفهم في جانب آخر، كيف؟

صحيح ان قيادات المكونات العراقية الثلاث الكبرى (الشيعة، السنة، الكورد) تتشارك تشكيل الحكومات العراقية بعد عام 2003، وتتشارك تقاسم مغانم السلطة والنفوذ، كما تتشارك التورط في ملفات الفساد، واضعاف المؤسسات الحكومية، وتشجيع الإفلات من العقاب، ووقفت الى جانب بعضها في مواجهة الإرهاب، عندما هدد مصالح الجميع …لكن ما عدا ذلك لا يبدو انها تؤمن تماما بمبدأ المشاركة والتنسيق والتضامن بنفس المستوى في إدارة الدولة وتقرير مصيرها، لاسيما في الملفات الرئيسة المعقدة للغاية مثل: علاقات العراق الخارجية، وتواجد القوات الأجنبية داخل أراضيه، وعلاقة الدين بالدولة، وتنظيم القوى العسكرية والمدنية، والطاقة، والمنافذ الحدودية وغيرها، بل ان بعضها لا يخفي معارضته لنصوص الدستور العراقي لعام 2005 الذي وضعت بنوده من قبلهم، لذا بدأ يدعو الى تغيير شكل نظام الحكم من برلماني الى رئاسي، معتقدا ان النظام الرئاسي سيكون حلا سحريا لمشاكل العراق المتراكمة ، ناهيك عن المناكفات السياسية التي تؤشر على وجود تقاطع شديد في مصالح القوى العراقية يهدد بشكل مباشر مصالح بلدهم العليا.

ان بعض الملفات اعلاه تشكل انعكاسا واضحا لرغبة قادة مكون ما لفرضها على قادة المكونين الاخرين، والامر بالعكس في غيرها من الملفات، وان الخلل في التنسيق وسوء الإدارة داخل الحكومة الاتحادية في بغداد تم القاء المسؤولية الأكبر فيه على قادة الشيعة؛ لكونهم يمثلون الأغلبية في الحكومة والبرلمان بحكم اكثريتهم العددية، أو لانهم يتزعمون السلطة التنفيذية في الدولة، او لمحاولة بعضهم فرض اجنداته بالقوة وبدون تفاهم مدروس مع قادة السنة والكورد، أو لاختلاف منطلقاتهم الفكرية عن مثيلاتها لدى القيادات السنية والكوردية، فضلا على وجود أسباب أخرى. هذا الشعور السني والكوردي بانفراد الشيعة في إدارة الدولة، وتحميلهم مسؤولية انحدار وانفلات الأوضاع في العراق، سواء كان مبررا ام ينطوي على تحامل وانكار للمسؤولية سوف يزداد بشكل كبير في المستقبل، وقد اخذت بعض القيادات السنية العراقية تجاهر به مؤخرا في وسائل الاعلام. اما القيادات الكوردية فهي لا تخفي امتعاضها من البقاء في فلك الدولة العراقية، وسبق لها ان اجرت استفتاء للانفصال عنها جرى في توقيت وظروف خاطئة للغاية في حينها، لذا من المتوقع في حال بقاء الحال على ما هو عليه ان تزداد مشاعر الامتعاض في الأوساط السنية والكوردية من القيادات الشيعية في بغداد، وقد يصل الامر الى حد طرح جدوى بقائها في العراق او جدوى العملية السياسية الحالية برمتها، فمن الواضح ان الأسس الفكرية والايدلوجية، وخارطة المصالح والاهتمامات والتحالفات، والتصورات الانية والمستقبلية لبناء الدولة في العراق لدى القيادات السنية والكوردية تختلف تماما عن مثيلاتها لدى القيادات الشيعية، وهو ما لم تحاول القيادات الأخيرة وضع حد له، لا سيما بعد هزيمة تنظيم داعش الإرهابي بدماء كانت معظمها شيعية.

لقد اعتقدت القيادات الشيعية النافذة ان ظروف ما بعد داعش تسمح لها بالاستمرار باللعب وفقا للقواعد السابقة لداعش، وهذا الاعتقاد كان مجرد تفكير مضلل للغاية. ان تصور قادة الشيعة بوجود الظروف المناسبة لفرض رؤيتهم واجنداتهم على نظام الحكم والإدارة في بلدهم، قد يكون نقطة ضعفهم التي ستحول مشروع تقسيم العراق الى السيناريو المرعب الذي ينتظرهم في المستقبل. وما يجب التنبيه اليه هو ان على جميع القيادات السياسية العراقية عدم عقد الآمال على استنساخ التجربة اللبنانية الفاشلة في بلدهم؛ وذلك لأن حقائق الديموغرافيا والجغرافيا والمخططات الدولية التي ساعدت على بقاء تجربة اللبننة غير المستقرة الى اليوم تختلف كليا عن الوضع العراقي. ان جغرافيا المكونات العراقية الثلاث الكبيرة تتوزع في مناطق محددة تسمح وتشجع على انقسامها، فضلا على امتلاك كل منها لمساحة جغرافية كبيرة نسبيا ، وعدد سكان لا بأس به ليكون شعبا لدولة جديدة، ناهيك عن شعور السكان بالامتعاض الكبير من الوضع القائم، واختزالهم لمشاعر جياشة تطمح الى تغييره باي صورة كانت، إضافة الى تمتع هذه المناطق بقدر هائل من الثروات، توفر قاعدة انطلاق اقتصادية محفزة، ومع وجود العامل الخارجي الداعم لمشروع التقسيم، فان الخطر القادم هو خطر حقيقي من الغباء تجاهله او عدم الاستعداد له. ثانيا-نتائج الانتخابات الامريكية القادمة.في الثالث من تشرين الثاني-نوفمبر القادم ستجري الانتخابات الرئاسية التاسعة والخمسين في الولايات المتحدة الامريكية، وهي تعد واحدة من اعقد وأشرس الدورات الانتخابية في هذا البلد؛ بسبب طبيعة الظروف المحلية والدولية الشائكة والمتأزمة التي تجري فيها، حيث يتنافس على منصب الرئاسة كل من الجمهوري دونالد ترامب، والديمقراطي جو بايدن. وعلى الرغم من أهمية هذه الانتخابات أمريكا ودوليا، الا انها قد تحمل معها تأثيرات مهمة للغاية على الوضع العراقي غير المستقر. ففي حالة فوز أي من المرشحين ستكون هناك انعكاسات حتمية مهمة، فعند فوز الرئيس الحالي (ترامب) سيكون من المتوقع ان يبدأ رئاسته بتصعيد الصراع مع طهران ومن خلفها معسكر بكين-موسكو ، وهذا الصراع ستكون له تداعيات مهمة على الشأن العراقي، لاسيما اذا ما قررت القوى العراقية القريبة من طهران الانخراط فيه لمصلحة الأخيرة، وربما سنشهد عندها فوضى وتململ في الساحة العراقية السنية والكوردية بشكل خاص، والشيعية بدرجة ما، خاصة عندما تبدأ واشنطن بمعاقبة العراق حكومة وشعبا نتيجة اعتقادها بعدم تمسكه بالحياد التام في الصراع، وتهديده لمصالحها وسياساتها الشرق أوسطية، في وقت يعاني فيه العراق ابتداء من أزمات داخلية مستفحلة تجعل من أي عقوبات محتملة قشة تقصم ظهر الدولة وتزعزع استقرارها. عندها من المتوقع ان تبدأ أطراف محلية، وربما بدفع خارجي بالتفكير جديا بتشكيل أقاليم مستقلة تحت مسمى زائف هو الكونفدرالية، نتيجة تخبط حكومة بغداد وضعف قدرتها في السيطرة على زمام الأمور. اما اذا فاز جو بايدن واصبح رئيسا للولايات المتحدة، وهو سيناريو بدأت تزداد ترجيحاته في الأسابيع الأخيرة، عندها سيكون العراق وجها لوجه مع عراب مشروع تقسيمه في واشنطن، والذي دعا اليه بقوة منذ عام 2006، وحصل على تصويت مجلس الشيوخ لمصلحته عام 2007، عندما كان رئيسا للجنة العلاقات الخارجية في المجلس، وعندما كان نائبا للرئيس أوباما (2009-2017) اصبح مسؤولا عن ملف العراق في الإدارة الامريكية، وقادت ادارته لهذا الملف الى انحسار اسهم الديمقراطية في العراق لمصلحة أوليغارشية سياسية (طائفية وقومية) فاقمت من تدهور الامن والاستقرار في البلد، وسمحت للتنظيمات الإرهابية بالتمدد والتحول من تهديد أمني الى تهديد وجودي للدولة العراقية بعد تحول تنظيم القاعدة الإرهابي الى ما يسمى بتنظيم داعش، الذي سيطر على اكثر من ثلث مساحة العراق وسوريا بعد عام 2014. فضلا على ما تقدم، فانه كان مسؤولا عن خلق فراغ القوة في العراق عام 2011 بدعم الانسحاب غير المخطط للقوات الامريكية آنذاك، ذلك الفراغ الذي تم ملئه من قبل طهران، والقوى المحلية غير الخاضعة للدولة، على حساب القوى الأمنية والعسكرية، والمؤسسات الرسمية للحكومة العراقية. ولا غرابة ان يدفع تخبط بايدن الى الاساءة بشكل كارثي لبناء الدولة في العراق، فقد قال عنه روبرت جيتس (وزير الدفاع في عهد جورج دبليو بوش) عام 2014: ” اعتقد أنه كان مخطئا في كل قضية رئيسية تتعلق بالسياسة الخارجية والامن القومي طوال العقود الأربعة الماضية”.

وأبرز خطئين ارتكبهما الرجل، بحسب الكثير من المراقبين، هما: دعمه لقرار غزو العراق عام 2003، ودعمه للانسحاب الأمريكي غير المخطط له بدقة عام 2011. ان فوز بايدن سيكون نذير شؤم للعراق في حال استمراره بحمل مشروع تقسيمه في جعبته، وهو أمر لا يوجد أدنى شك في حصوله؛ لأنه نابع من قناعته بهذا المشروع، واعتقاده انه يمثل الخيار الأفضل للعراق والمنطقة، ولحماية مصالح واشنطن، كما سيجد عندها دعاة التقسيم المحليين والاقليميين دعما قويا من أكبر دولة في العالم، وهذا سوف يشجعهم على المزيد من الاندفاع نحو تحقيق أهدافهم، واثارة المشاكل الكثيرة امام استقرار الدولة العراقية. وعليه سيكون استمرار القيادات العراقية، لا سيما الشيعية بمناكفاتها الحالية، وصراعاتها العبثية، وتعدد اجنداتها، وتزعزع ثقة جمهورها بها، ومحاولتها فرض لون محدد على الدولة، بصرف النظر عن التبعات، كل ذلك وغيره سيمثل خدمة مجانية ومحفزات ثمينة إضافية تعطي لمشروع التقسيم شرعيته وجاذبيته في نظر الكثيرين.

ان العراق مقبل على مفترق طرق خطير في تاريخه، ويتحمل زعمائه السياسيون، لاسيما الشيعة منهم المسؤولية الكاملة عما ستؤول اليه الأوضاع، على مستوى بقاء دولتهم واستمرارها ككيان سياسي وقانوني واحد او تفككها وتقسيمها الى أكثر من كيان، كما يتحملون المسؤولية عن الكم الهائل من معاناة شعبهم سواء في الوقت الحاضر ام بعد حصول التقسيم. ومن المهم ان لا يظن أحد ان التقسيم سيجري بلا مخاطر، فهكذا ظن هو مجرد وهم كبير، فتقسيم العراق في حال حصول سيكون صندوق باندورا للعراق، وربما للشرق الأوسط، وستكون تبعاته خطيرة ومؤلمة للجميع، وهذه المخاطر قد يتم التطرق لها في مقال آخر. ما نود ان نختم به هذا المقال هو: ان مشكلة كثير من الزعامات الشرق أوسطية هي اندفاعها المتهور دائما الى الامام بهدف التخلص من أزمات تعاني منها اليوم، أزمات كانت هي سببا مباشرا في حصولها، الا انها للأسف تدرك بعد فوات الأوان ان اندفاعها كان مجرد ذهاب سريع للسقوط في الهاوية. وعليه فالخشية الكبيرة ان تقود قيادات العراق اليوم بلدها الى هاوية سحيقة يكون الخروج منها امرا مستحيلا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى