مقالات

عالم المثال الأزرق

رعد أطياف

يقال إن مواقع التواصل الاجتماعي أفرزت لنا عينات نفسية غريبة الأطوار لم نصادفها من قبل. والحقيقة أن هؤلاء متوفرون بكثرة في كل زمان ومكان، وقد اسهمت هذه المواقع برفع الكواليس لا أكثر. الكذب، والخداع، والنفاق، والحسد، والتكبير والاستعلاء، والتخوين، والتنمّر، والشائعات.. إلخ.. ليست جديدة على الإطلاق. ما تتجدد وتتحول هي الأدوات والظروف المساهمة. بعبارة أخرى، حين نقول إن الأحوال النفسية التي نراها في العالم الافتراضي هي أحوال غير مسبوقة، فهي عبارة بمجملها صحيحة، من قبيل شيوع أمراض نفسية كثيرة ربما لم يكن لها وجود في ما سلف، لكن، وبخصوص الأحوال النفسية التي عززت من نفوذها مواقع العالم الافتراضي، تبقى العبارة ليست حكماً قطعياً. وفي ما يخص العلل الأخلاقية التي ذكرناها أعلاه، أعتقد أن ما تغيّر هو اتساع دائرة الظروف المساهمة في تعزيز هذه الأهواء النفسية العنيفة. فهذه المواقع لم تأتِ بجديد بخصوص البشر وأزماتهم المستَحكَمَة، وإنما ساهمت بفتح الباب على مصراعيه واستبدلت الواقع الفعلي بالصورة الافتراضية، فأصبحنا كائنات افتراضية يمكننا أن نَشتُمَ أحدهم و نتآمر على الثاني ونشوّه سمعة الثالث ونحن، كما نظن، في مأمن من العواقب، لا سيما الشخصيات التي ترتدي قناع الأسماء المستعارة. لا نستطيع، ونحن كائنات فعلية على أرض الواقع، أن نطلق العنان لأهوائنا النفسية بطريقة مماثلة في العالم الافتراضي ونكيد بالآخرين بهذه السهولة. فالواقع الافتراضي أطلق لجام الأهواء عند البعض وعزز حالات التعويض بمساحات واسعة، فصّدقنا الكثير ما أسقطناه على شخصياتنا الافتراضية. إن سحر العالم الافتراضي لا يقاوم ما جعل الكثير يرفع القناع عن هويته الواقعية وهو تحت تأثير هذا الاغراء الافتراضي. فصاحبنا الذي يعاني من التشظي والاغتراب نتيجة لمحاولاته المحمومة للظهور بصورته المُتَخَيَّلَة أو بتعبير أدق، بصورته المرغوبة، وجد الفرصة المواتية للثأر الرمزي من ذاته والآخرين في هذا العالم الفسيح!. لماذا يحدث كل هذا؟.إن الرفض والاقصاء والاستبعاد القسري للفرد من قبل الجماعة أو المجتمع تحيله إلى كائن خطير للغاية. وسينتظر الدور المناسب للأخذ بثأره سواء كان رمزياً أو فعلياً. ومهما طال زمن انتظار الظروف المواتية، فهذا لا يقلل من عزيمة المنبوذ للتعويض المفرط لو وجد المناخ المثالي لتفريغ هذا الكبت النفسي المؤلم. لذا، ليس بالضرورة أن نحكم بشكل متسرّع على بعض أولئك الذي يتسمون بالطيبة والوداعة؛ فالسلطة تكشف المستور وتخرجه إلى العلن في وضح النهار. وللعالم الافتراضي سلطة فريدة من نوعها، تعزز عملية الاشتهاء والتعطِّش لرغباتنا وتطلق عنانها بقوة. ومهما جادلنا حول السعة والضيق التي تتمتع بها سلطة مواقع التواصل الاجتماعي، فإنها أضفت زخماً غير مألوف لأغراء البعض وإظهارهم على حقائقهم التي كنّا نجهلها في الواقع الفعلي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى