مقالات

من معقليين إلى شروگيين

هنا المعقل..هنا البصرة (20)

من معقليين إلى شروگيين – منقذ داغر

طيلة التسع عشرة حلقة الماضية من هذه السلسلة التي سطرت فيها ذكرياتي عن معقلي وبصرتي كما عشتهما في ستينات وسبعينات القرن الماضي،حاولتُ بناء تحليل منطقي للاسباب التي أدت الى خلق هذه الشخصية البصرية المنفتحة،المدنية،المتطيفة بدون طائفية،والمتكيفة دون فقدان الهوية. إنها شخصية مغايرة تماماً للشخصية التي اتعامل معها كل يوم الان من خلال الابحاث الاجتماعية التي أجريها وفريقي!حينما نشرت اول حلقة كنت اعتقدها الأخيرة وكانت رداً على رسالة وردتني من شخص كردي كان جاراً لنا قبل اكثر من ستين سنة! كتبت تلك الحلقة لتكون مجرد استذكار للمعقل آنذاك.لكن شباب كثر من هذا الجيل سألوني عن الاسباب التي جعلت المعقل والبصرة بذلك الزهو وتلك الشخصية الاجتماعية المميزة. فأستعنت بذكرياتي ،بطريقة نقدية لا بطريقة سردية، لاحاول وضع يدي على سبب تلك المدنية والانفتاح والوئام الاجتماعي الذي عشتهُ وجيلي في المعقل.وخلال بحوثي التي أجريتها أنا وزملائي في العراق وخارجه كانت ظاهرة التدهور في البنى الاجتماعية واستنزاف رأس المال الاجتماعي في العراق قد شغلتني كثيراً الى الحد الذي جعلني اتعمق فيها لاني بتُّ مقتنعاً ان الظروف التي مرّ بها العراق خلال المدة من 1980 الى الان قد هدمت كل ذلك البنيان الاجتماعي والتراث المدني لجيلنا. ويكفيني هنا الاشارة الى ان معدل الثقة بين العراقيين الذين لا يعرفون بعضهم البعض قد تدهور من أعلى من 40 بالمئة عام 2004 وهو من معدلات الثقة الجيدة عالمياً،الى حوالي 11 بالمئة عام 2019 وهو الادنى عالمياً. صاحب ذلك ارتفاع في معدلات الغضب والقلق وعدم الرضا حتى تربع العراقيون على قمة الشعوب التي تعاني من الغضب والقلق الاجتماعي بموجب الدراسة التي أجراها فريقي مع مؤسسة گالوب الدولية للابحاث! ورغم ان هذه الارقام لا تجعلني كباحث اقول ان جيلنا افضل من الجيل الحالي لاني مؤمن ان هذا الجيل هو ضحية ما ارتكبهُ جيلنا،وأن هذا الجيل يبدو أكثر قدرة على التغيير وأختيار مستقبله،لكني اردتُ في هذه السلسلة التعرف على اسباب ذلك الانفتاح والسلام الاجتماعي الذي بتنا نفتقده اليوم. أعتقد جازماً ان هناك عوامل اساسية ساعدت جيلي في المعقل على ان يكون اكثر انفتاحاً،وتفاعلاً مع الآخر،وأقل غضباً ،ولعناً لحاله مما نراه اليوم. وعلى الرغم من عدم أطلاعي على دراسات مبنية على ارقام علمية آنذاك، لكني لم أسمع أحداً ممن عايشتهم آنذاك يتذمر من الحياة التي يعيشها،ويلعن الايام التي جعلته هكذا،ولم أرَ أو أسمع أحداً يريد الهجرة، أو حتى يرنو لمغادرة البصرة! لم أعرف أحداً حذرني من الآخر بسبب طائفته او تزمته الفكري والديني،ولا بسبب انفلاته الاجتماعي والخُلُقي. لم أعرف معنى ان يكون زميلي او صديقي من(التبعية)،او من أصول غير بصرية!!لم أتعرف على كلمة(شروگي) الا في الثمانينات. ولم أسمع مصطلح (محافظات) الا في (الألفينات).لم يكن السني منا يتردد لحظة لزيارة(المقام) او(علي الشرجي)،أو (علي الغربي)،أو كربلاء او النجف كي يطلب مراده ! ولم اعرف شيعياً من جيلي تردد في زيارة الزبير،أو الگيلاني أو أبي حنيفة والصلاة هناك!! نعم كان هناك بعض السفهاء،والمتطرفين والمرضى لكنهم كانوا معزولين ولا يستطيعون بث سمومهم كما يفعلون الان. كانت المدينة وحياتها وثقافتها تقهر الطائفيين ،والتمييزيين ،والمتطرفين،والمنغلقين. ولم تبدأ (باعتقادي) الحياة المدنية بالتدهور الا حينما تريّفت المدن،وتطيّفت الثقافة،وتبدّى(من البداوة)الحكم. ثلاث عوامل منحت المعقل شخصيته المدنية تمثلت بالعمران المدني،والتعليم التربوي،والترفيه البنيوي. هذه (وليست وحدها فقط)هي من ساهمت بتأسيس بُنية إجتماعية تحتية متماسكة،وتراكم رأس مال أجتماعي تم أستنزافه على مدار نصف القرن الماضي.(يتبع).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى