مقالات

نحو مجلس أعلى للمياه

نحو مجلس أعلى للمياه – علي الشكري

منذ عقد من الزمان تقريباً كنت في زيارة الى سنغافورة بمهمة رسمية ، وبعد الانتهاء من الاعمال التي من أجلها قصدت البلد اصطحبني وزير التنمية في جولة فكانت أولى محطاته ساقية ماء بعرض لا يتجاوز متر أو متر وربعه في أحسن الاحوال ، ووجدت عندها افواج من طلبة المدارس الابتدائية ، فجال في خاطري تساؤل أهذا معلم سنغافورة الابرز ساقية ماء ضيقة ؟ واستدركت مع نفسي وقبل أن أبادر بطرح السؤال على الوزير المرافق ، أيعقل أن الامر خالٍ من الحكمة بقصد المكان ؟ والبلد كله مدنية وحداثة وتنظيم ، كيف لا وهو بلد المليونيرات ، والبلد الذي حيّر بنهضته المتسارعة عقل كل لبيب ، البلد الذي استقل عن التاج البريطاني قبل نحو نصف قرن فقط ” 1963″ ونهض بآليات وسرعات تدعو للتأمل والتفكير ، وهو في مساحته صغيرة وبسكانه قليل وبثرواته محدود وبتشكلاته الاجتماعية معقد وبمنظومته الموروثة ملغّم ، وكل ذلك راح يدور في خاطري وأنا اتردد بطرح سؤالي حول اختيار معلم الساقية ، ولم يتركنِ الوزير المضيف بحيرتي طويلاً ، إذ بادر قائلاً نحن بلد شح فيه الماء والمطر والزرع فوجدنا ضالتنا في التجارة والميناء والعمارة ، نستورد الماء الخام من ماليزيا ونصدر لهم الماء بعد تنقيته وتعبئته فحولنا الندرة الى وفرة وصدرنا ما استوردناه وروينا شعبنا ومولنا الخزينة ، ولكي يعرف النشء قيمة الماء صرنا نربيهم على المحافظة على النادر الشحيح من الاشياء وفي مقدمتها الماء ودليلنا الساقية التي شح فيها الخير ، فهذا الشحيح كل ما يملكه الوطن من خزين ، دونه يهلك الشعب والوطن ولا خيار الا المحافظة عليه ، هكذا تُبنى الأوطان وبهذه الآليات تُغرس روح المواطنة والولاء للأرض . في بلدنا ونحن نعيش أزمة المياه الاقسى بتاريخه الممتد لا زلنا ننقل للجيل عدم فك شفرة سقي حدائق بابل المعلقة بدلاً من تربيتهم على ثقافة أن الماء اغلى من النفط ، وأن البترول لا يرى النور دون الماء ، وأن الحرب القادمة حرب مياه ، ولا زلنا نعبث بماء المطر والحصة القادمة من وراء الحدود ودول المنبع فنتركها تروي مياه البحر لتكسر حاجز ملوحته في محاولة لتغيير قانون الطبيعة ، ولا زلنا نعفي الماء المستخدم والمهدور من الرسوم ، ولما نزل نطهر اجسامنا وايدينا والماء يهطل كالمطر ، وحتى اليوم تُدرس الجامعات العراقية السقي بالمراشنة والسيح وتغطية الارض بالماء بقصد الارواء ، بدلاً من تربية الجيل ومشروع القادة على تطوير الذات بقصد اللحاق بركب العالم وما وصل اليه من وسائل السقي الحديثة الآخذة بالتطور والتجدد ، ولا زلنا نعبث بالماء لقضاء الوقت مرة بإغراق حديقة المنزل وثانية بتحميم السيارة وثالثة بالممازحة الشخصية ، وراحت أحواض الاسماك تنتشر وتتفشى كالنار في الهشيم ، فدخل في ميدانها المربي والتاجر والمضارب والسياسي وصاحب الثأر والساعي لتدمير الوطن ، وسلطة المياه في غياب وصمت غفلة أو تغافل ، ولا يزال الجوار يقيم السدود ويضع الحواجز ويقلل النسب ويقطع الحصص ولا من يحرك ساكن أو يرفع صوت أو يعترض ، ويحدثونك عن الدبلوماسية ولغة الحوار ومصالح الجوار والتلويح بورقة الاقتصاد . لقد تحسب السلف من البناة في البلد لأزمة المياه فاقموا البحيرات والسدود والنواظم وجلها لا كلها في عهد الملك وقاسم ، فمن تحسبات وادراجات وإنشاءات مجلس الاعمار بحيرة الرزازة والحبانية والثرثار وسد دوكان ودربندخان وناظم سامراء ، واللافت أن الديكتاتور وحزبه تنباها لأهمية المياه وقبل أن يشح الخير وفي زمن الوفرة أقيم سد حديثة وحمرين والموصل ، والملاحظ أن الحكومات العراقية المتعاقبة بعد سنة 2003 لم تضع ضمن أولوياتها كارثة المياه ، ولم تُضمّن برامجها الحكومية فقرات تخص معالجة الأزمة القائمة والنكبة القادمة ، وقد راحت الاراضي البور تتزايد والبساتين الغناء تتراجع والاراضي المروية تتناقص حتى هجر من تشبث بالارض وتعلق بترابها ، تاريخه وموروثة وامتداده وراح يبحث عن المؤسسة العسكرية والامنية ليعمل فيها عملاً بمبدأ قليل مستمر خير من كثير متقطع ، بعد أن أصبح الكثير قليل أو نادر وربما غائب ، من هنا وايماناً بمبدأ التكامل التنفيذي واداءً للواجب الدستوري كانت قضية المياه في مقدمة اهتمامات فخامة الرئيس الذي وجه بإعداد مشروع قانون المجلس الاعلى للمياه ليكون الراسم الناظم لسياسات المياه في الوطن ، ففي الوطن تغيب سياسة التفاوض من أجل اقتسام عادل للحص ، وفي ابجدياته لامعنى لسياسة الخزن والاطلاق ، وتنتفي عنده ثقافة الري الحديث ، ولا مفردات في قاموسه لترشيد الاستخدام ، وغريب على تشريعاته المُعاقبة على هدر المياه والعبث في استخدامها ، ولا يُجرم من أهدر ما هو أغلى في الوطن بعد البشر . على الجميع ممن أسندت إليه مهمة إدارة شأن الوطن التنبه إلى أن لا وطن دون ماء ولا أمن دون تنظيم وترشيد للحصة المجهزة والكميات المخزنة والسياسات المرشدة ولا استقرار وتوطين وتسكين دون ممتد مرشّد منظم من المياه ، لقد دق جرس الانذار ، واضحت الاوطان في تسابق من أجل ضمان ما يقّوم الحياة ، ولتحقيق الغاية انكفأ العلماء وانشغل الساسة وتزاحم الباحثون بقصد بلوغ ما يؤمن الممتد ، وبالقطع أن تشريع قانون المجلس الاعلى للمياه سيكون خط الشروع لتأمين سياسة مائية وطنية رشيدة ، وليكن عام 2022 عام التصحيح المائي في العراق ، فقد سبقنا العالم بمسافات لكن أن يأتي التصويب متأخراً خيراً من أن لا يأتي ، فالعالم والجوار والإقليم يعي أن القادم جفاف والمستقبل سنوات عجاف والماء إلى ندرة وشحاح ، وفي العراق من المقومات ما لا يملكه الغير من البشر والمال والماء وفيه المستقبل لو أحسن استثمار ما توافر .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى