مقالات

اختيار الموت في المنافي..قرار عراقي؟

د. فاتح عبدالسلام

ما معنى أن يفضل مبدعون كبار الموت في المنفى على العودة الى أوطانهم. هذا يحدث نادراً في العالم، لكنه ظاهرة واضحة في العراق. في تسجيل فيديو قصير، في منزل الشاعرة العراقية الكبيرة التي رحلت اليوم لميعة عباس عمارة، تتلقى سؤالاً يحرك موجات إثر موجات في بحيرة شاسعة من الوجع العراقي الطاعن في الزمن. تسأل الشاعرة أمل الجبوري وهي خلف كاميرتها الشخصية: – متى ستكون لك عودة الى بغداد؟ فتجيب لميعة اجابة قاطعة لا مجال لمراجعتها أو التحويل والتبديل فيها فتقول : -لا أظن في هذه الدورة من حياتي. وحين تقول لها محدّثتها : إنني عرفتك شاعرة وانسانة متفائلة، تردُّ لميعة عباس عمارة بعفوية صادمة: – ليس الى هذا الحد. نادرا، تكون قد حدثت لدى اي مبدع مغترب غير عراقي هذه القطيعة الموغلة في وجع لا علاج له، برغم انّ العراق ينبض في قلوب العراقيين وكلماتهم، ولا يكاد يكون لهم وجود من دون ذلك النفَس العراقي الذي يتنفسونه ويفيض في صدورهم، أينما كانوا في أصقاع العالم. هل الانظمة السياسية التي تحكم في بغداد هي السبب الوحيد في ذلك؟ أم انَّ خراباً مُدمراً شوّه الصورة الحُلمية التي في عيون المبدعين والمفكرين المغتربين وحالَ دون عودتهم ومواجهة ذلك الكم من الخراب المرعب في نواح تفصيلية شتى. هناك مبدعون كبار آخرون بعد الجواهري و عبد الوهّاب البياتي وعبدالستار ناصر وسعدي يوسف ولميعة عباس عمارة سيغيبهم الموت في المنافي، من دون أن يكون الشك قد ساورهم لحظة واحدة في انَّ لهم عودة ممكنة الى بغداد. فما الذي حل ببغداد إذن لتكون على هذه الصورة في صفحات ضمائر نبض الامة ومبدعيها؟ أعرف انَّ هذا الكلام غير دبلوماسي وجارح وفيه نسبة عالية من الإعمام الذي لا أميل اليه عادةً ، لكنه صريح ويصف ما نراه ونشعر به ونلمسه، لا ما نسمعه أو ما يُملى على أسماعنا. هناك مَن يقول انّها مواقف شخصية وسياسية، وهذا ليس صحيحاً، فقد تغيّرت عهود سياسية مختلفة، ولم تتغير قناعات لميعة عمارة وسواها من أولئك الذين يحملون بغداد وكلّ العراق هويةً أبدية لكلماتهم وملامح وجوههم ولهجات أنفاسهم، بالرغم من القرارات القسرية التي فرضوها على انفسهم في خلال ذلك الغياب الطويل في المنافي الموجعة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى