مقالات

الامية في تجاهل الامية

اشكال عديدة لظاهرة الأمية تحيل التعليم العربي التقليدي مفرّغا من المعنى

الكاتب: صلاح احمد

التعريف البسيط للأمية هو العجز عن القراءة والكتابة. ولأن محوها هو العتبة الأولى نحو محاربة الجهل والفقر وسائر الأمراض المجتمعية المتصلة بهما ومن ثم بناء مختلف ضروب الحضارة الإنسانية، تسعى سائر الدول لأزاحتها من الطريق، عن طريق التعليم الإجباري المجاني في المدارس الأولية على الأقل.

وعندما تصدر الإحصاءات الدولية عن الأمية وسط مختلف الدول فإنها تعتبر “العجز عن القراءة والكتابة” معيارا لأرقامها. وعلى هذا الأساس وحده – تبعا لإحصاءات اليونيسكو في 2018 – فإن نسبة الأمية وسط الفئة العمرية 15-24 سنة لا تتجاوز 0.4 في ليبيا و0.8% في لبنان و5.3% في السعودية و6.1% في مصر.

هذا مدعاة لفرح كبير، أليس كذلك؟

لا للأسف.

تبسيط مخل ومضلل

عندما نقول إن أقل من 1% من الليبين واللبنانيين أميون فإننا نقصد أنهم عاجزون بالكامل عن القراءة والكتابة، وأن الكلمات المكتوبة بالنسبة لهم مجرد أشكال وطلاسم تتساوى بصرياً مع “خربشة على الرمل” تركها صرصور وراءه. وهذا يعني أن 99.6 من الليبيين و99.2% من البنانيين و94.7% من السعوديين و93.9% من المصريين يقعون خارج هذه الفئة باعتبارهم قادرين على القراءة والكتابة ومتعلمين بالتالي.

ما المشكلة إذن والسواد الأعظم من العرب متعلمون؟ ما الذي يمنع الدول العربية والحال كذلك من الاكتفاء الصناعي والزراعي والطبي والتكنولوجي و…؟ لماذا تعتبر هذه الرقعة من العالم متخلفة بالقياس الى الغرب والشرق الأقصى مثلا وتشتري سلعهما لأنها “لا تعرف” كيف تنتجها بنفسها؟ لماذا يقال إن مساهمات العرب في الحضارة الإنسانية توقفت منذ القرون الوسطى؟

لأن في الأرقام المتعلقة بالأمية ومحوها تبسيطا مخلا ومضللا. هذه الأرقام لا تجيب عن السؤال المحك: عندما تجاوز الناس جدار الأمية، أي عتبات صعدوها على سلم القراءة والكتابة نفسيهما؟ بعبارة أخرى، كم صارت مسافة اقترابهم من المعرفة القصيّة على الأمي؟ الى أي حد مضوا على طريق اكتسابهم القدرة على تغيير مجتمعاتهم الى الأفضل عبر نيل المعارف يمينا ويسارا؟

الحقيقة المُرة هي أن القدرة على القراءة والكتابة لا تعني شيئا ذا أهمية في حد ذاتها لأنها وسيلة وليست أيا من غايات لانهائية. وحتى إذا صار كل عربي من المحيط الى الخليج قادرا على القراءة والكتابة فلا فائدة تُجنى من ذلك إذا انتهى الأمر عند هذا الحد وتوقف المسير. ولهذا تجد تعريفا آخر يوسع شرح الأمية، ويتصل هذا بالأمية الوظيفية.

أميّة العيش

يسمونها الامية الوظيفية أو المهامية (functional illiteracy)، وهي القدرة على القراءة والكتابة ولكن الى مستويات لا يكفي تدنيها لأن يستخدمها المرء لزيادة المخزون المعرفي والمستوى المعيشي سواء لديه أو لدى مجتمعه. وفي هذا الصدد جاء في جلسة اليونيسكو الـ20 العام 1978 أن الشخص يعتبر أميا وظيفيا “في حال عجزه عن المشاركة في أنشطة مجتمعه التي تستلزم القدرة الفعالة على استخدام القراءة والكتابة كلازمتين لمشاركته في هذه الأنشطة وأيضا استخدامه القراءة والكتابة والحساب لتطوره الشخصي وتطور مجتمعه”. بعبارة أخرى فهي المدى الذي يوظف فيه الشخص قدراته التعليمية لتحسين وضعه المعيشي وقدرته على تطوير الظروف المعيشية لمن حوله، وتبعا لهذا التعريف فسنسميها في هذا المقال “أمية العيش”.

الأمية درجات

كغيرها من مجالات العلم والجهل، فإن أمية العيش نفسها درجات تتفاوت من ثقافة لأخرى لأن بعض المجتمعات يسلتزم مستوى من القراءة والكتابة والحساب عاليا إذا قيس بمجتمعات أخرى. ومثلا، في أغلب الأحوال، تجد أن أمية العيش لدى مزارع ريفي في دولة متقدمة صناعيا وتكنولوجيا أعلى بكثير من نظيره في دولة فقيرة نامية. ولذا فهي نفسها تقسم الى أربع خانات هي “تحت الأساسية” و”الأساسية” و”المتوسطة” و”العليا”.

بل إن أمية العيش تتخذ لنفسها أشكالا قد لا تخطر على البال ولا تستحوذ تالياً على الاهتمام الذي تستحقه، ومنها الأمية الاغترابية. وهذه يُعنى بها الشخص غير القادر على القراءة والكتابة بلغة المجتمع الذي يعيش فيه مغترباً، بغض النظر عن مستواه التعليمي بلغته الأم. ومثلا فالسوري خريج جامعة دمشق الذي يعيش في باريس لكنه لا يقرأ الفرنسية ولا يكتبها أمي اغترابي. وفي المقابل فإن الفرنسي خريج السوربون الذي يعيش في دمشق لكنه لا يقرأ العربية ولا يكتبها أمي اغترابي بالقدر نفسه. كلاهما لا يتفاعل مباشرة مع المجتمع الذي يعيش فيه وهو دوما بحاجة الى وسيط ما ليفعل ذلك.

الأمية الخفيّة

الأمية الخفيّة هي الجهل بالجهل أو الرضاء به حتى عندما يصبح علما بالجهل. وهي الأخطر على الإطلاق لأنها تؤدي الى كل الطرق غير طلب المعرفة وإلى موت المعرفة نفسها. وهي أيضا تتخذ أشكالا عدة أبرزها بالطبع غض البصر عن العجز عن القراءة والكتابة. لكن هناك غير ذلك مما يدخل على نحو أو آخر من هذا الباب ولا يقل خطرا لأن معظم الدول النامية لا تصنفه في باب الأمية أصلا.

ومن أشكال الأمية هذه: الصحية والزراعية والبيئية والتكنولوجية والإعلامية والاقتصادية والعقلية والعاطفية والنقدية والعرقية والحسابية والجغرافية والتاريخية والسياسية والبصرية والسمعية والعابرة لأشكال التلقي.

ومعظم هذه مفهومة من اسمها، لكن بعضها جدير بشيء من الضوء. فالعابرة لأشكال التلقي تعني أن الشخص لا يستطيع مثلا ترجمة صورة أو لوحة رآها الى كلمات تصف ما رآه أو تفسّره، أو أن يقرأ عن مضار اللحوم والدهنيات والملح والسكر، لكن هذا لا يغيّر في عاداته الغذائية وكأنه محصن ضد هذه المخاطر. والعاطفية، مثلا، تعني أن الشخص غير قادر على فهم عواطفه وبالتالي على كبح جماحها خاصة عندما تتخذ لها منحى يضر به وبالآخرين. وبينما البصرية هي وقوع دلالات ما تراه العين (كالتاريخ في الأبنية الأثرية مثلا) في “البقعة العمياء”، فإن السمعية هي وقوع دلالات ما تتلقاه الأذن (كالتناغم الموسيقى مثلا) في “البقعة الطرشاء”.

الأكثر تعلماً

لأن محاربة الأمية وحدها لا تعني الكثير عندما يتعلق الأمر بتقدم الدول على طريق المعرفة والتحضر، فإن هناك قائمة أخرى هي المعيار الأدق لهذا التقدم تسمى “قائمة الأمم الأكثر تعلما” تصدرها “منظمة التنمية التعاونية والاقتصادية” الدولية ومقرها باريس. وتُعرّف الأمم الأكثر تعلما بأنها صاحبة العدد الأكبر من خريجي الجامعات والمعاهد العليا وأصحاب شهادات الماجستير والدكتوراه (وسط الدول التي لا تقوم أنظمتها التعليمية على التلقين والحفظ بدون فهم أو قدرة على التفكير التحليلي، وهذا وحده يستبعد سائر الدول العربية والإسلامية).

وتبعا لقائمة 2018 فالدول العشر الأكثر تعلما هي: كندا (56.27%)، اليابان (50.5%)، إسرئيل (49.9%)، كوريا الجنوبية (46.86%)، بريطانيا (45.96%)، الولايات المتحدة (45.76%)، استراليا (43.74%)، فنلندا (43.6%)، النرويج (43.02%)، لكسمبورغ (42.86%). ولاحظ أن الولايات المتحدة تأتي في المركز السادس رغم أنها تضم بعض أفضل المؤسسات التعليمية على ظهر الكوكب، وهذا لأن المنظمة الدولية تعتبر الدول الخمس التي تسبقها أفضل تعليما بقياس مستويات الخريجين الأكاديمية. ولاحظ أيضا غياب عمالقة اقتصاديين على شاكلة الصين والمانيا وفرنسا من العشر الأوائل.

حال بائسة

قارن ذلك بما ورد في تقرير أصدره المكتب العربي في برنامج التنمية بالأمم المتحدة في 2005 وجاء فيه أن المجتمعات العربية “مشلولة بسبب غياب الحريات السياسية، واضطهاد النساء وتخبط نصفهن في ظلام الأمية، والانعزال عن العالم وعن الأفكار الجديدة”.

وقد استدل التقرير على هذه الحال  بإحصاءات مخيفة منها أن نصيب العالم العربي من الكتب لا يتعدى 28 عنوانا لكل مليون شخص، وأن عدد الكتب التي تترجم في الدول الناطقة بالعربية مجتمعة لا يزيد على 300 كتاب في السنة مقارنة بمتوسط 1650 كتاب في دولة صغيرة كاليونان، وأن عدد الكتب التي تترجم إلى الاسبانية في العام الواحد يعادل كل ما ترجم إلى العربية في ألف عام. وللأسف يظل هذا الوضع اليوم على ما كان عليه وبلا أمل حقيقي في تغيّر الى حال أفضل.

الداء والدواء

محو أمية العيش – وليس مجرد محو الأمية – هو المنطلق الحقيقي الذي يتعين على الحكومات والمجتمعات العربية أن تبدأ منه لأنه مستهل الطريق الى العيش الكريم في مجتمع أقل فقرا وأكثر عدالة اجتماعية وأفضل إنتاجا، متمتع بالحريات الأساسية، ومنفتح على تيارات المعرفة الإنسانية ومساهم حقيقي في إثرائها، وخالي من الأمراض القديمة كإغلاق الباب أمام مشاركة المرأة في دفع عجلة الاقتصاد، والجديدة على شاكلة الإرهاب الأصولي.

وهذا لن يتسنى لها طالما أصرت على التعامل مع محو الأمية باعتباره الهدف وليس الوسيلة، وطالما أصرت على التعليم بالتحفيظ عن ظهر قلب وكأنه صنو للفهم والاستنارة. وعلى سبيل المثال وليس الحصر، خذ آي الذكر الحكيم: “والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا، فالمغيرات صبحا، فأثرن به نقعا، فوسطن به جمعا”. ما المراد عندما يجبر واضعو المناهج التعليمية العربية طفلا في الثامنة أو التاسعة من عمره على حفظ وترديد هذه الآيات بينما السواد الأعظم من الكبار أنفسهم – بمن فيهم خريجو الجامعات – لا يدركون معاني كلماتها أو الرسالة التي تحملها؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى