مقالات

المعقل كالبهار البصري ..خلطة فريدة

هنا المعقل..هنا البصرة (رابع عشر)المعقل كالبهار البصري ..خلطة فريدة – منقذ داغر

شهدت بدايات القرن العشرين تحولات ثقافية كبرى انعكست على الحياة الاجتماعية في الغرب، وبالتالي أثّرت في اعتقادي في طريقة بناء الانكليز للمعقل كمدينة جديدة تعكس رؤيتهم للحداثة،ورغبتهم بالمفاخرة،وحاجتهم للسكن لادارة الموانئ وكل التسهيلات اللوجستية الحيوية لهم ولقواتهم ولاقتصادهم. لقد غيرت حقبة ما يسمى بالامبريالية الجديدة من اسس الاقتصاد العالمي وصار اكثر اعتمادا على سلاسل التوريد التي تتطلب اهتماما أكبر بالموانئ ونقل البضائع والتكنولوجيا والاشخاص التي باتت تتطلب تنظيما وادارً وتنسيقاً عال لضمان التدفق المستمر للمواد الاولية والعمل الرخيص. هذا يعني أهمية أكبر لميناء العراق الوحيد(البصرة) وتزويده بأحدث التقنيات. أما على الصعيد الاجتماعي فقد ادى نمو الطبقة الوسطى الكبير في بداية القرن العشرين وتحديد ساعات العمل والعطل والراحة الى زيادة ملحوظ على الطلب الخاص بملء وقت الفراغ ،ليس فقط للاغنياء كما كان الحال تقليدياً،بل حتى للطبقتين الوسطى والعاملة. ترافق ذلك مع ثورة تعليمية وتكنولوجية تمثلت باختراع السينما والفونوغراف والاسطوانات الموسيقية. كما بدأ الناس آنذاك بالاستمتاع اكثر بالانشطة الرياضية الخارجية وتم تشكيل اندية رياضية في كل اوربا وبخاصة في أنكــــــلترا. وقد كان لافتا مثلاً حضور أكــــــثر من 120 الف متـــــــفرج لنهائي كأس الاتحاد الانكلـــــــيزي بين بيرنت وليفربول عام 1913.طريقة تصميمأثرت هذه التغييرات الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية،بلا شك، في طريقة تصميم وبناء(ماركيل) عام 1916. لذلك كان نصيب الترفيه والفن والثقافة والرياضة ملحوظاً في تصميم المدينة بشكل لم يكن مألوفاً للبصريين ،بل للعراقيين آنذاك. من هنا نفهم سر ذهاب البصريين للمعقل يوميا للاستمتاع بما تتيحه لهم من وسائل الترفيه الاجتماعي. لقد كانت المعقل هي المقصد الترفيهي الاول للبصريين وعوائلهم. وهكذا افهم ايضا سر امتلاء البصرة في الستينات والسبعينات بأبناء وعوائل بغداد ليس فقط للتبضع وأنما للاستمتاع بكثير مما لم يألفوه. هنا لا أقول ان بغداد لم تكن فيها أماكن ترفيه أو رياضة،بل بالعكس كانت فيها اماكن اكثر بحكم كونها العاصمة ولثقلها السكاني والسياسي. لكن المعقل كانت تتمتع بشخصية حضارية متنوعة م أرها الا في مدن الريف الانكليزي الجميلة.أن الخليط الرائع من البيوت والمباني الجميلة،والشوارع الواسعة المكسوة بخضرة دائمة،والحدائق الواسعة والمنظّمة باشكال هندسية رائعة،والنوادي المتعددة الاغراض،والاسواق العامرة،وأشارة نمرة أربعة الضوئية،ومزيج شط العرب مع شطوط المعقل والترك والمطار،وجسر هيل،وجزيرة السندباد وشقق الاعراس فيها،والبواخر الكبيرة الصافة بانتظام على الميناء،ويخت الملكة عالية(الثورة) الرائع الجمال،ومطارها الدولي وفندقها المترف،ومسابحها الكثيرة وسينماتها ومسارحها الغفيرة،وساحات لعبها الوفيرة،كل هذا الخليط المعجون بطيبة البصريين الساكنين فيها،وسحنة ولغة الاوربيين الذين تغص بهم ارجاء ومرافق المعقل،يجعل منها بهاراً بصرياً لا يمكن ان يعرف سر خلطته ونكهته الا من عاش تفاصيل ماركيل ابتداء من زقزقة طيور الفجر وانتهاءً بالموسيقى الشجية التي تملأ جوانب وحدائق ناديي البورت كلَب والميناء في أماسيهما العائلية العجيبة. هذه الخلطة المحببة لنفسي لم اجدها في كل مدن العراق الاخرى(التي زرتها).هذا الخليط من الجمال والفن والرياضة والثقافة منح (ماركيل) شخصيةً مدنيةً جامعةً لكل ساكنيها. لقد كنا نفخر على زملائنا واندادنا بأننا نسكن المعقل.وحينما أصر والديّ على ارسالي للاعدادية المركزية في العشار في الصف الرابع الاعدادي لمكانة وسمعة الاعدادية المركزية آنذاك، لم أشعر ان زملائي فيها من ابناء العوائل الثرية والمترفة أفضل مني. لقد كنت اباهيهم بأني العب التنس يومياً في ملعب البورت كلب المواجه لبيتنا،وأن ابي كان يصحبنا لفندق شط العرب لتناول الشاي حسب التقاليد الانجليزية لتقديم الشاي في الفندق،واني وأخوتي كنا نذهب يوميا للمسبح او للسينما او للنادي او لسواهم من اماكن الترفيه الكثيرة التي كانت متاحةً لي في المعقل ولم تكن متاحةً لهم رغم ثراء عوائلهم. هذه الثقة التي منحتها بيئة المعقل لنا أزعم انها أثّرت في شخصيات كل من عرفتهم من أبناء المعقل. وفي الحلقة القادمة اغوص أكثر في تأثيرات هذه البيئة المعقلية فينا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى