مقالات

بناء الوطن إرادة وقرار وإدارة

بناء الوطن إرادة وقرار وإدارة – علي الشكري

المتتبع لتجارب بناء الدول ، يجدها إرادة شعب تجسدت في اختيار قادة يمتلكون العزيمة ، ولديهم القدرة على اتخاذ القرار ، فالشعب مصنع الحكام ، والحكام صنّاع مدنيات ، وبناة أوطان . وبالقطع أن تلازم حتمي لا ينهض بين بناء البلدان وغناها ، وتخلفها وشح مواردها ، ففي كثير من التجارب كانت الثروة مدعاة هدوء وسكون وركون للاسترخاء ، والحاجة محرك بحث وابتكار واستكشاف بديل ، باستعراض بعض التجارب الأكثر نجاح في تا ريخنا المعاصر ” سنغافورة ، ماليزيا ، رواندا ” نجد أن الحاجة والتخلف والصراعات المجتمعية وارتفاع معدلات البطالة وتزايد مؤشرات الفساد ، وقفت وراء ولادة قادة أخذوا على عاتقهم مهمة التصدي لإعادة بناء المجتمع ، وقيادة عملية التغيير ، وتشييد دولة عصرية ، وعرض انموذج يصلح اعتماده تجربة نجاح . فسنغافورة المؤلفة من عدة جزر صغيرة لا تتجاوز مساحتها مجتمعة 650كيلومتر مربع ، كانت جزء مهمل من الاتحاد الماليزي حتى سنة 1965، حيث أعلن البرلمان الماليزي في تلك السنة استبعادها من الاتحاد بسبب الخلافات الأيديولوجية ، فالشعب السنغافوري الذي لا يتجاوز عديده ستة ملايين نسمة ، يتوزع بين القومية الصينية والهندية والملاوية وبعض الأقليات الأخرى ، وسنغافورة بلد فقير ليس فيه معدن أو بترول ، وهي شحيحة المياه ، وربما كل ما تملكه الموقع الذي يعد وصلة بحرية بين المحيط الهندي غرباً وبحر الصين شرقاً ، وفي ظل هذا الواقع الاجتماعي المتنافر ، والطبيعة الشحيحة بخيراتها ، والجوار الطارد ، أنبرى قائد آمن بنهضة بلده فجعله تجربة نجاح تدرس ، فقد تمكن ” لي كوان يو ” من لملمة شتات مجتمع متنافر تتلاقفه التباينات القومية ، وتشتته الخلافات الدينية ، فحوله الى مجتمع موحد تجمعه مصلحة البلاد وتفرقه كل ما يمس مصالح سنغافورة العليا ، ولتعويض القصور في الموارد ، وشح المياه ، وغياب مكنون الأرض ، اتجه ” لي كوان يو ” الى تطوير التعليم ، فأرسل البعثات ، وركز على التخصصات ، وانفتح على العالم الأكثر تطور ومدنية ، فاقتبس التجارب وطور القدرات وبدأ حيث انتهى الآخرون الأعلى نمواً، وبدلاً من التنجيم والتعدين ، اتجه صوب الصناعة ، فقدم القروض ، وشيد المدن الصناعية ، وركز على الصناعة التحويلية ، فحول سنغافورة الى ورشة صناعية كبيرة يسودها الضجيج ويغيب عنها الهدوء ، فهي في حراك مستمر وغيرها ساكن ، ولم يكن قطاع الاستثمار بعيداً عن تخطيط وتفكير وأوليات ” كوان ” فقد عمد لبناء قاعدة تشريعية طابعها تبسيط الإجراءات ، وهاجسها غلق منافذ الفساد والتعقيد والتبطيء ، فتوجه العالم صوب البيئة الجاذبة الميسرة ، فاجتمع فيها مال الاستثمار ، وهو ما نشّط الاقتصاد ، ووفر فرص العمل ، وقلل الفقر ، ورفع حصة الفرد من الناتج القومي ، ولم يكن استثمار الممر المائي بعيداً عن تفكير ” كوان” ، إذ عمل على تحديث ميناء سنغافورة ليكون الأكبر في العالم إذ أصبح يرتبط بأكثر من ” 600″ ميناء في العالم ويتسع لأكثر من ” 650″ مليون حاوية ، وكل ذلك لم يتحقق لسنغافورة لولا إرادة شعب وقرار رائد بناء، كان خط شروعه ، اعادة بناء المجتمع ، فاعتمد المشتركات وغادر المتناقضات ، ركن الى إعمال القانون والضرب بيد من حديد على أيدي وأعناق ناهبي المال العام ، من كبار الفاسدين ممن تصدوا للمسؤولية فأسوا وأتمنوا فخانوا وأداروا وأخفقوا ، فمصلحة البلاد المقدم الذي لا مقدم عليه ، والأولية التي لا أولوية قبلها . وبالقطع أن مقومات بناء دولة عراقية عصرية قادرة مقتدرة آمنة مسالمة ، قائمة متوافرة ، متى اتجهت الإرادة الشعبية صوب قيادة كفؤة نزيهة ، صقلتها التجربة ، وعلمتها الأحداث ، أئتمنت فصانت ، وتصدت فنجحت ، تملك العزيمة والقدرة على التصدي ، والتعرض لمن خان وافسد واساء ، لديها قدرة البناء ، وشجاعة التعلم ، وإرادة الإشراك والتوحيد ، لا الإقصاء والتفريق ، في العراق الإرث والتاريخ ، وفيه القدرة على مسايرة الحاضرة وتشييد المدنية ، فيه البشر والحجر والثروة ، وفيه الزرع والحرث ، فيه الماء الجاري والدافق من باطن الأرض ، في باطن أرضه المعدن والبترول ، وفوقها الصالح للزراعة والصناعة والاستثمار ، حدوده ممتده ، وجواره متعدد ، وموقعه فريد ، يحادده الشقيق ، وشريك الدين والمصير والتاريخ . ويقيناً أن الفرصة اليوم سانحة للباحث عن دخول التاريخ ، فأرض العرق بكر للساعي صوب الاستثمار الدار ، فالعراق اليوم خواء ، لا زراعة ولا صناعة ولا تشييد ، مستقبل غير مرسل ، مستورد غير مصدر ، بلد يخلو من مناطق التبادل التجاري ، ليس فيه مدن صناعية ، ولا مشيدات زراعية ، تجارته أحادية الجانب ، سوقه تستقبل ولا تودع ، ثروته منهوبة ، وماله مغسول مهرب ، كهربائه متذبذبة منقطعه ، وطرقه خاوية غير معبدة ، بناه التحتية قديمة متهالكة ، حديثها قديم ، وعصريها هرم ترك الزمان آثاره عليه ، وبالقطع أن كل ذلك مدعاة للتفاؤل في بناء وطن حديث معافى ، بلحاظ أن في العراق عقل وقاد ، وأرض بكر ، وقاعدة صناعية تتطلع للباحث عنها ، بيئته الاستثمارية جاذبة للباحث عن الربح الوفير ، متى هيأت مقدمتها التشريعية ، ونافذتها الواحدة ، ويد المتصدي النظيفة ، أما باطن أرضه فخيرها وفير ، واستثمارها يسير ، تجذب الباحث عن الجدوى والمجدي ، إذا احسن استخدامه ، وتطورت ادارته ، وتغيرت أساليبه ، وبالقطع أن كل تطور وبناء وتشييد ، يعتمد معادلة ثلاثية الأبعاد ، إرادة شعب ، وحكمة قيادة ، وحسن إدارة ، باجتماعها تشيد المدنيات ، وبغيابها تعم الفوضى ، ويحل التراجع والخراب .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى