منوعات

جورج بطاي:: الايروسيه لذة الموت

عبد الغفار العطوي
ثمة تصور خاطئ أوحى به مترجمو الكتب الغربية في القرن العشرين الفكرية والفلسفية والثقافية والأدبية العرب أثناء ترجماتهم للآلاف منها، في مختلف التيارات والمذاهب، الألسنية والبنيوية والتفكيكية، والوجودية، والهيغلية، والماركسية، والهرمانيوطيقية والفينومينولوجية، والتحليلية والوضعية والبراغماتية والنسوية ونظريات التلقي واستجابة القارئ والمناهج الأسلوبية والسيميولوجية..الخ. إن هذه المدارس الفلسفية والتيارات الفكرية والأدبية، تعمل بمفردها، أو بمعزل عن بعضها البعض، وتحتل الواحدة (المدارس) تباعاً حقبة من الزمن في الشهرة والحفاوة واهتمام جمهور المثقفين والقرّاء، ثم تنطفئ وتخلي مكانها لغيرها.
 
 من دون محاولة من المترجمين إلا نادراً التنويه إلى أن القرن العشرين، والعالم الغربي بضفتيه الأوروبية والأميركية هو من أغنى القرون في تاريخ البشرية، وليس في تاريخ الغرب قد شهد اكتظاظاً معرفياً وصراعاً متلاطماً لجميع هذه التيارات الفلسفية مثل الظاهراتية والوجودية، والمدارس الفكرية (مدرسة فرانكفورت، وبراغ، وغيرها) مجتمعة معاً، بيد أن قدرة الترجمة على نقل كل هذا النتاج الفكري، والاقتصار على المدارس الفكرية الكبيرة المؤثرة، وعلى العقول اللامعة التي فرضت سلطتها المنهجية والفكرية في ثقافة القرن هي التي جعلت ذلك التصور يبدو ضاغطاً على وعينا نحن 
العرب.
كي نتوهم أن القرن العشرين هو عبارة عن بوتقة فكرية لتيارات غير ممتزجة، لكن التحذير الهامس للنخب الفلسفية والفكرية (خاصة النخب الأكاديمية) التي نبهت إلى ضرورة فهم القرن العشرين على أنه تيار مستمر وصل بين الفكر العالمي القديم حتى ما بعد الحداثة، هو الذي جعلنا نتطلع إلى مفهوم التواصلية في الفكر الغربي ويعود السهم الأوفر في تلك الإشارة لأهمية أخذ القرن الماضي ككتلة واحدة لبعض المثقفين الجزائريين (أنا أدركت ذلك في كتابات د. عمر ميبيل) ولأني قد اطلعت على هذا الوعي من خلال قراءتي لكتابات الفيلسوفين الفرنسيين بول ريكور (1913 – 2005) في سيرته الفكرية الذاتية (بعد طول تأمل) وكتابه المهم الضخم (الذات عينها كآخر) وجورج بطاي في كتابيه (الإيروسية والتجربة الداخلية) عرفت متأخراً، في هذا القرن (الواحد والعشرين) بينما كان جل المثقفين في المغرب العربي أصبح لديهم أثيراً، ويعود السبب، في ما أظن، إلى حقيقتين. 
أن جورج بطاي (بتاي) فيلسوف فرنسي معاصر، عاش في حقبة الاستعمار الفرنسي للجزائر وتونس، وأجبر المجتمعين الجزائري والتونسي على تعلّم الفرنسية قسراً ومحاولته إشاعة الثقافة واللغة الفرنسية (الفرانكفونية) فكان سهلاً على أغلب المثقفين في البلدين الاطلاع على جورج بطاي والكم الهائل من التراث الفرنسي، وثانيةً، لأن فلسفة بطاي اتجهت إلى التيار اللا عقلي في مفهوم (الغريزة) عكس التيار العقلي السائد في الغرب، وتمخّض عن الحداثة، ثم ما بعد الحداثة، لنجد تقارباً وميلاً بين فلسفة بطاي وأضرابه من الفلاسفة كنيتشه الذي تأثر به بطاي في سن مبكر، وتشرّب فلسفته السوداوية، ومضى بها في مسار حياته وفلسفته، التي لاقت  تعاطفاً وتضامناً في المغرب العربي، لما تمثلت فلسفة جورج بطاي على معادلة غريبة، في الجمع بين التناقضات، وفرض حلولاً للمستحيلات، فهو كما يصفه صديقه الحميم ميشيل تريس في مقال شهير له بعد وفاته باعتبار أن بطاي هو رجل المستحيل، إذ يرى أنه بعد أن (كان الرجل المستحيل المفتون بما كان  يتيسر له اكتشافه من الأمور الأكثر استعصاء على القبول، ها هو يوسع رؤيته انطلاقاً من فكرته القديمة
بتجاوز لا). (1) 
ولعل التأثر الواضح بنيتشه، خاصة في كتابه (جينالوجيا الأخلاق) هو الذي حدد مصيره الإنساني، وبصم مساره الفلسفي، لدرجة اقتفاء الأثر في طبيعة نظرة فلسفته التي حملت مفاهيم نقدية حادة للمقدس، من حيث أن الإطار الفكري هذا سيشكل رؤيته، فقد نقد بطاي المسيحية بشدة في طبيعة نقد نيتشه لها، مثلما نقد فلسفة دو ساد في الرغبة الجنسية، باعتبارها نقداً للمقدس، حينما جمع بين مفهومي (الموت والرغبة) في تقابل غير مسبوق عند قبله، فمفهوما (الإيروس وثناتوس) لم يكن ليلتقيا إلا في نظرة بطاي لمفهوم الإيروسية، حينما نعترف أنها لا تعني التلذذ في حدود الحياة، بل تتعدى إلى انتهاك المحرم في الموت، وكان الجمع بين هذين المفهومين ميز فلسفته بالجدلية القائمة بين الذاتي والموضوعي، الحياة والموت، أي أنها تجربة داخلية تقوم في التخوم، يمارسها العشاق والمتصوفة، أي الوصول إلى لذة الموت، وانتهاك المحرم، ثم العودة نحو فكرة اللذة الإيروسية التي اختلف مع الجميع، في أنها ليست سوى تجربة فردية، تمثل اختلالاً في توازن الكائن يضع بموجبه نفسه موضع تساؤل.  
 
 من هو جورج بطاي؟ 
هو فيلسوف فرنسي معاصر (1897 – 1962) لم تأته الشهرة إلا بعد أمد، بسبب عدم قناعته بما يقدمه فلاسفة من معاصريه واجهوا الإشكالية ذاتها في حدود التساؤلات عن الغايات القصوى التي تعترض الكائن كالوجوديين الذين تناولوا تلك الإشكالية في حدود الأدب والفنون أيضاً، فكان رفضه لأن تطلق على كتاباته فلسفة، وفضل ميله نحو اللاهوت في ما يطرحه، وهو الذي قد أسهم في ذلك الاتجاه لأنه وجد كتاباته أقرب إليه مع أنها كانت تحمل تحليلاً فلسفياً بيناً، وبالرغم أن سيادة الفلسفة وتأخر اللاهوت في الترتيب التصنيفي في الأهمية ظل يصب في غير صالحه، فضلا عن موقفه من الفلاسفة الكبار الذين سادوا القرن العشرين وخلافاته معهم، مع ذلك عرف بفيلسوف الرغبة، وتناول موضوعة
الإباحية.
ولم يركز على الفلسفة فقط، بل كتب بالنقد والشعر وفلسفة الجمال وعلم النفس، لكنه اشتهر بتعامله مع الموضوعة الإباحية بطريقة فذة، نالت إعجاب الكثير من القراء، واضعاً جل عبقريته الفلسفية في فكرة الشبق وخرق المحرم في كتابه (السيدة إدواردا) وهي أشكلة هامة علاقة الرغبة كتجل وجودي بالموت، في ما استطاع أن يصوره من خلال أسطورة الأجساد المنجذبة والذوات المعطاءة حد التلاشي.  
 
الإيروسيَّة 
ثمة تصور مختلف عن مفهوم الإيروسية في فلسفة بطاي، نجدها مفصلة في أهم مؤلفاته وكتبه بصورة مبهرة، تؤشر لريادته في الوصول إلى إمكانيات مذهلة في الاختلاف عن أقرب من تعرض إلى هذه الرؤية، في جدلية التأرجح في تجربته بين الذاتي والموضوعي، وبين الحياة
والموت.
 الرؤية التي خاضها المركيز دو ساد، وموريس بلانشو، وآرتو بالقدر ذاته، بيد أن بطاي ظل مقاوماً لفكرة الاستقرار في العدمية، كما فعل الوجوديون، أو التوغل في اللذة مثل المركيز دو ساد، الإيروسية أعطاها لوناً مغايراً في كتبه التجربة الداخلية والإيروسية والسيدة إدواردا ودموع إيروس، في مقدمة كتابه (الإيروسية) يقول بطاي: يمكننا القول في شأن الإيروسية أنها تتمثل في إقرار حقيقة الحياة حتى في
الموت (2). 
لكن بطاي يقول عن هذا التعريف أنه لا يكفي بالنسبة لمن يقر تعريف دو ساد باعتبار الإيروسية هي في المجمل نشاط جنسي، من دون إدراك أن هذا النشاط الجنسي سمة مشتركة بين الإنسان والحيوان، لغرض التكاثر، ولا تمثل الإيروسية إلا جزءا منه، إلا أن بطاي يقسم الإيروسية إلى ثلاث صور، إيروسية الأجساد، وإيروسية المشاعر، والإيروسية المقدسة التي تمثل القداسة الإلهية، وهو يقر أيضاً أن الإيروسية في جميع صورها ذات
قداسة. 
 
ما تعريف الموت؟ 
يعد جورج بطاي في ما يتعلق بمفهومي الاتصال والانفصال بأننا كائنات منفصلة نتدحرج نحو الهوة السحيقة، نشترك بالولادة والتكاثر بالاتصال الجنسي (وبعض الكائنات المجهرية بالتكاثر اللاجنسي) غير أننا نحاول التواصل بيننا، لكن هذا التواصل لا يمحو اختلافاً جوهرياً في أننا نموت منفصلين في تلك الهوة التي تثير ذهولنا ودهشتنا في شعورنا المشترك بالموت، وهذا التعريف لمعنى الموت لا يعني تقبل الموت على أنه فكرة منفصلة نهائية، إنما هناك علاقة معه ترتبط بالحياة، فالرغبة في الموت، هي الشعور بالإيروسية بصورتيها إيروسية الأجساد وإيروسية المشاعر اللتين نعيشهما معاً في لذة الموت
نفسه.
 
الموت عند جورج بطاي 
يختلف جورج بطاي عن كل سابقيه، أو مع معاصريه في إسباغ النظرة العدمية على فكرة الموت، إنما يذهب إلى أن الموت هو تجربة باطنية تقع في التخوم، تمنح العلاقة بين الحياة والموت اندفاعاً في تنفيذ الجمع ما بين اللذة (الرغبة) وما بين الموت (الذي هو انتهاك الحياة) فالإيروسية في فلسفة بطاي هي انتهاك
المحرم.
 
 
1 – من النسق إلى الذات د. عمر مهيبيل منشورات الاختلاف الطبعة الأولى 2007 ص215.
2 – الإيروسية تأملات في الشبق والموت وجدلية العقل والإسراف جورج بطاي ترجمة د. محمد عادل مطيمطا دار التنوير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى