مقالات

عراق الفرهود

عراق الفرهود – ياس خضير البياتي

الحرب في العراق مازالت قائمة. يلعلع فيه صوت الرصاص، ويكثر ضحايا القضية، وينتشر غبار الأحزان، ويُهدّم فيه بهجة البشر في العيش، وينشط اليأس في النفوس. حرب تلد حروبا أخرى، وأزمة تلد أزمات أخرى. بلد ولاّد التناقضات؛ يصنع عبقرية المكان والعقل، وينتج بالمقابل تفاهات البشر من الحواسم في ملاجئ المكبات السياسية.وحيثما يكون الفرهود، تكون الواقعة أشد إيلاما على من يعيش في دوامتها؛ ينقطع التنفس، وتزداد جلطات الوطنية، وتقتل المشاعر والأخلاق والقوانين، وتنتحر القيم البشرية، ويقتلع روح الإنسان، ويولد جيل متوحش يسعى للقتل والياس، وتنتعش الروح التدميرية للذات البشرية.عادة ما ينتشر في بلاد الفرهود الفقر والجهل وسيادة القيم التقليدية، وتُهيّمن العشيرة والقبيلة، والحزب، وتزداد الرذيلة، وجيف البشر، حيث تموت التنمية، وتقوى الشبكات الحاكمة، وأداة القوة والقهر، حيث الفساد موجودا عند بيئة المحسوبية والزبونية السياسية، والرشوة والابتزاز. والفساد من الآخر هو مرض معدي وقاتل.في العراق أصبح الفساد ثقافة متأصلة، وقانوناً طبيعياً منظماً لأليات الحكم واستمراه، حيث توسعت خريطته الأفقية والعمودية. صرنا اليوم نتحدث عن الموظف الفاسد الذي ينجز المعاملات الإدارية لقاء رشوة وعينه على اللص الكبير، ونتحدث أيضا عن فساد عمودي يقوم به كبار المسؤولين الذين يصنعون قوانين التحايل على النظام القضائي، ويبتكرون العقود الوهمية على الورق مع شركات العائلة والأقارب المدعومة بمافيات سلاح المليشيات والدولة العميقة.صار العراقي يحلم بانه سيعيش في دبي وسويسرا لكثرة المشاريع التي يسمع عنها، لكنه يستيقظ فجأة على وهم الأحلام؛ مازال يعيش في نار العيش مع الأنقاض والمزابل، وبيته يلفه الظلام الدامس دون أن يجد الدولة بقربه!بلد خربان وفرهود؛ خربان، لأنه لم يعد بلداً تسمع فيه صوت القانون عالياً، ولا تُحترم قراراته وقوانينه، ولا سيادته مصانة بالفاعل، ولا صالحاً للعيش والتباهي. لم يعد سوى اسماً في خرائط الجغرافية، ومنكوب بوصف التقارير الدولية؛ الأسوأ معيشة، والأكثر فساداً، والأخطر مكاناُ، والآخر في ترتيب الأوطان.ينام الشعب سعيداً ومسروراً وهو يسمع بدخول المليارات من الدولارات إلى خزائن دولته بسبب فائض النفط وارتفاعه، لكنه يستيقظ ليسمع خبراً عاجلاً بأن أمواله “شفطت” من اللصوص المجهولة. بلد يغرق بالنفط ومواطنيه يغرقون بالفقر. معادلات لا يستطيع خبير الرياضيات أن يعمل لها جداول الضرب والقسمة، ولا الإحصائي أن يرسم جداولها البيانية ويحلل نتائجها.بلد فرهود، ضيع “الصاية والصرماية”. وصار يجلس على الحديد الصدأ، وتحت وصاية اللصوص وحواسم الفرهود؛ 350 مليار دولار أموال مهربة إلى الخارج ،300 مليار دولار أموال مهدورة أو مختلسة، و150 مليار دولار رواتب الفضائيين. و80 مليار أنفقت على الكهرباء. وهذه المبالغ وغيرها المخفيّة، تبني دولاً كاملة، وليست مدناً كبيرة؛ تبنى عشرات الأبراج مثل برج خليفة، وتنشأ مئات مصانع السيارات والطائرات، والموانئ والمطارات، وتُصدر للعالم فوائض الكهرباء والماء، ويكون العراقي اسعد إنسان في هذا الكون معيشة وسكناً ورفاهية.

أحلام من باب الافتراض ليس إلا. وما الضير أن نحلم، فهذا الحلم يمكن أن يتحقق إذا كانت لدينا عقول مبتكرة، وأيادي نظيفة ونزيهة. لكنها صعبة عندما يكون حكامنا من فصيل البغال والحمير، وأرباب الشفط واللفط والصمغ والنفخ. فلا نتوقع منهم أن يؤسسوا لنا حكما رشيداً وعدالة اجتماعية، وأن يرممّوا الوطن بجدران الموزاييك، وان يشعلوا لنا أنوار الطاقة والعلم. فهؤلاء القوم جاءوا للخراب، وزرع الجهالة، وتوسيع القبور، ومزابل الجيف والمستنقعات.لا تخدعكم سرقة عدّة مليارات من دوائر الضرائب والجمارك، فهي “بخشيش” لموظف صغير فتح للكبار أبواب الرزق الحرام لهم ولعوائلهم وشركاتهم. لا تنخدعوا بما يجري، فهي مجرد رسائل تهديد، وتصفية حسابات بين عصابات أل كابوني العراقية. أطمئنوا فالكل لا يجرأ أن يفضح زميله السارق، لأن الكل ينام على وسائد المليارات، ومعه ملفات فساد الأخوة الأعداء. و“إياك أعني واسمعي ياجارة ” .

عشنا دهرا من السنين، ولم نسمع أحدا من القادة وكبار الساسة وراء القضبان. سمعنا فقط عن حالات لمواطنين فقراء؛ صبي يبلغ من العمر 8 سنوات يحكم عليه بالسجن لمدة عام بتهمة سرقة أربع علب من المناديل الورقية. بينما يُبرأ الكبار من الفساد بسبب صغر سنهم، أو لأنهم ليسوا من أرباب السوابق. قصة ضحك عليها الجاحظ ومات قهراً!ستجد على لائحة بلد الغرائب والفرهود الكثير من الصور المتناقضة؛ مجلس النواب ينهي تكليف إحسان عبد الجبار من منصب وزير المالية بالوكالة لأنه كشف للقضاء ملفا للفساد بسرقة 2.5 مليار دولار من أموال الضريبة في مصرف الرافدين. وهي صورة معكوسة تذكرنا بالمثل الشعبي “حاميها حراميها”. كما تعكس آلية خريطة حماية الأموال المسروقة وسراقها. غرائب الزمن ؛ تصويت ضد كاشف الفساد، وبراءة الفاسد!لا أحد ينكر إن الفساد ينهش بوزارات ومؤسسات الدولة، وان جميع العقود تتضخم بالسرقات الكبيرة والرشاوي، وأن 90 بالمئة من أموال الدولة تُهرب للخارج أو يتم غسيلها بطرق غير مشروعة. فساد ينتشر كالسرطان بغياب النزاهة والشفافية في العطاءات الحكومية، ومحسوبية ومحاباة في التعينات الحكومية للعوائل والأقارب والأصدقاء، ونهب منظم للمال العام تحت مسميات مختلفة، وابتزاز على المكشوف للاستفادة من الأموال العامة بطرق غير قانونية، كابتزاز الاتجار بالمناصب .

غبي من يعتقد إن هذا الطوفان من الفساد يأتي جاهلاُ بالأبجديات، ويمر مسرعاً على الأوطان، وليس له أجندة سياسية، فهو عملية مُمنهجه لنشر الخراب. فالفساد أقوى وأعمق تأثيرا من الحروب العسكرية في تفتيت المجتمع، وخراب النفوس. وفايروس الفساد دخل العراق مع حقيبة بريمر، فأنشأ مدرسة كبيرة لتخريج السياسيين الفاسدين في علوم الفساد والمخدرات وغسيل الأموال والدعارة والرشى والمحسوبية؛ خطة جهنمية لقتل العراق، وجعله جثة هامدة لا يقوى على التنفس والنهوض والتغيير!دعنا نتحدث عن كشف الفساد والمفسدين، ولكن دعنا أيضاً نعرف سر المختبر الدولي الذي صنع هذا الوباء الجرثومي القاتل. دعنا نحدّد الضمير المستتر الذي يُفهَّم من المعنى، ولا يُعرف على أي ارض مات. فجهالة الزمن اشد من جهالة المكان!لن تسمعوا جديداً في قادم الأيام، لأن “الركعة صغيرة …والشك كبير” والإبرة غير قادرة على حفر البئر. سنودع “خوجة علي” بالفضائح والنكات، وسنستقبل “ملا علي” بالهتاف والنفاق.

لن نسمع سوى النغمة القديمة المشتركة “نحن خدّام الشعب”؛ شعار جربناه يقول لك: ستذهب فوائض المليارات لجيوب الخُدّام، وسيذهب الشعب المخدوم إلى مقبرة السلام!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى