مقالات

كل تربية هي تعليم – منقذ داغر

هنا المعقل..هنا البصرة(اثنا عشرة)كل تربية هي تعليم – منقذ داغر

في حلقة سابقة قلت اني يمكن ان ارصد في سردي الاجتماعي-التاريخي لمدينة المعقل ثلاث خصائص اساسية ساهمت في تاسيس البنية الاجتماعية التحتية للمدينة التي كانت (الثقة )تمثل احد ابرز مخرجاتها فباتت الشخصية البصرية شخصية واثقة وغير خائفة أو مرتابة. تصميم مدينة المعقل،والتعليم فيها،وانتشار الفن والثقافة والترفيه هي الركائز التي تشكلت عليها شخصية أهلها كما عرفتهم. في هذه الحلقة ساستكمل الحديث عن التعليم كما عرفته في مدينتي.على الرغم من اني لا أذكر تجاربي المبكرة في مدرسة الثغر الابتدائية المختلطة في شارع الاثل بالمعقل،الا اني اذكر ما يكفي من المشاهد والتجارب في سنيني المتقدمة في تلك المدرسة-المصنع،التي ادين لها ولمعلماتي فيها بكل الفضل ما حييت. أهم وابرز ما أذكره ان المدرسة كانت تزرع فينا الثقة والفن والجمال لا من خلال ضخ المعلومات في عقولنا وكأننا مخزن للمعلومات او ذاكرة الكترونية،بل من خلال النشاطات اللاصفية الكثيرة التي كانت تجعل يومنا الدراسي جميل وذهابنا للمدرسة غير ممل. واليوم،حين اسمع عن برامج التدريس في بعض المدارس المتطورة في العالم اتذكر مدرستي الابتدائية والبرامج التي كانت فيها.فعلى الرغم من بساطة التقنيات آنذاك مقارنة بالعصر الحالي الا ان اهداف ومخرجات التجارب التي كنا نمارسها في طفولتنا في المعقل لا تختلف عما اسمعه في ارقى المدارس العالمية. وللتدليل،سأركز على ثلاث انشطة تربوية مهمة كانت ملازمة لنا طيلة الدراسة الابتدائية والمتوسطة والثانوية، وبتُّ لا اسمع عنها شيئا في مدارسنا في العراق حالياً: الفن(بضمنه الادب والشعر)،والرياضة ثم الكشافة(أو الجوالة).على الرغم من اني ساخصص حلقات للفن في المعقل،لكني اريد هنا التطرق لتنمية الذائقة الفنية والثقافية عند الاطفال بما يشذب طباعهم ويستفز حواسهم ويلهم عقولهم. في الصفين الثالث والرابع كنت استمع لابيات الشعر البسيطة على لسان الست أقبال(أم غيلان) وزوجة الراحل الخالد بدر شاكر السياب.كانت آلاء(ابنتها)جليستي في نفس الرحلة،وزميلتي في نفس الصف،فكانت اشعار الست أقبال اول تجاربي مع الشعر الجميل.وعلى الرغم من انها غادرت الهيئة التدريسة بعد ذلك الا ان حنانها علينا وحبها لنا كأولادها(غيلان وغيداء وآلاء) الذين كانوا معنا في المدرسة ،كان تجسيدا حيا لوصية زوجها الذي أفخر أن أبي يمتُّ له بقربى.فكانت ست أقبال كما اراد لها شاعرنا الكبير حنونةً علينا رؤوفةً بنا:أقبال يا زوجتي الحبيبةلا تعذليني ما المنايا بيديولستُ وإن نجوتُ بالمخلّدكُوني لغيلان رضًى وطيبهكُوني لهُ أمّاً وارحمي نحيبهوعلّميه أن يُذيلَ القلبَ لليتيم والفقيرأما الست شوقية العطار التي اتحفت العراقيين كلهم مع الكبير فؤاد سالم بأغاني(لا لا لو لوه،وياعشقنا..الخ)في اوبريت بيادر الخير،وغنت لاحقا مع الاوركسترا النمساوية،فقد كانت تجعلنا نغني معها في درس الفنية،فنطرب ونرقص ونضحك كثيرا.لم يكن الغناء والفن محرماً او عيباً قي صبانا،بل كان ثقافة وتربية وأخلاق مدنية راقية. وكيف للفن ان لا يكون راقياً وملهماً ومعلماً لنا ونحن(أنا وزملائي في المدرسة)نقف في الكورس خلف سيتا هاكوبيان الرائعة وهي تنشد من على مسرح مدرستها(المعقل) للقدس بعد النكسة،مرددةً: لأجلكِ يا مدينة الصلاة نصلي.. ياقدس يامدينة السلام..يازهرة المدائن!أنه الفن الراقي المدني الذي جعل الاستاذ ابراهيم الشمسي يختارني ومجموعة من الطلاب من مدارس مختلفة في المعقل،لكي يعلمنا العزف على الالات الموسيقية.فكنت أمضي في تلك السن المبكرة ساعات وساعات معه حاملا (اوكورديون) المدرسة لاعزف انت عمري،ولسه فاكر ،وسواهما من روائع الفن الراقي. كانت غرفة الموسيقى مليئة بالالات الموسيقية وبالتالي كان الجميع- وليس فقط من يستطيع آباؤهم شراء الات موسيقية لهم- يستطيعون تعلم الموسيقى وتذوقها. لم يكن،في تلك الأجواء المليئة بالفن والمرح أي من زملائنا يشعر أنه يختلف عن الآخرأو أقل منه شأنا فيؤثر ذلك في تكوينه النفسي ويقلل من ثقته بنفسه والآخرين. أنها مدارس حكومية يدرس ويلعب ويمرح فيها الجميع دون ان يشعروا من هو الغني او الفقير،ومن هو السني أو الشيعي او المسيحي او الصابئي. الجميع يرتدون نفس الزي ويأكلون نفس الوجبة المدرسية التي توزع عليهم،ويلعبون بنفس الساحة،ويجلسون على نفس الرحلة،ويعزفون على نفس الالات.كيف أنسى الاستاذ ابراهيم والاستاذ فاضل اللذان تناوبا على تعليمي الموسيقى دون ان يتقاضيا من اهلي فلساً واحدا عن الساعات الطويلة التي كانا يتناوبان فيها على اصطحابي للحفلات والمسارح المدرسية (وهي كثيرة) وكأنني ابنٌ لهما. ويقيني أنهما لم يكونا يتقاضيان من وزارة التربية أي مخصصات أو بدلات أضافية نظير ما يقومان به لي ولزملائي الاخرين. كانت مكافئتهما -كما كنت اتصورها آنذاك- هي الفخر الذي يحسان به حين يسمعان كلمات أطراء كالتي سمعها الاستاذ ابراهيم من الفنان البصري الكبير مجيد العلي حين اصطحبني لاعزف مع فرقته الموسيقية ولم يتجاوز عمري عشرة أعوام. نعم،كانت التربية الفنية والموسيقية جزءاً اساسياً في منهاجنا الابتدائي لا يجرؤ أحد المعلمين على التجاوز عليه ليعطينا حصة اضافية في القراءة او الكتابة او العلوم. تعلمنا ان الفن لا يقل احتراماً ومنزلةً عن العلوم فنشأنا محبين لرسالته ومعانيه،مجلّين لمعلميه ورواده. لاحظوا ان العزف والنشيد والوقوف على المسرح للخطابة او الشعر او الموسيقى،كلها تزيد من ثقة الطفل بنفسه وقدراته،وتزيد من تفاعله مع الاخرين تفاعلاً سلمياً راقياً.هذه وسواها هي بعضٌ من مولدات الثقة وركائز رأس المال الاجتماعي الذي خسرناه للاسف بسبب العنف والتطرف. انها التربية التي كانت تهتم بها مدارسنا ايها السادة. انها فلسفة التعليم الذي يؤدي لخلق شخصية اجتماعية سليمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى