مقالات

مصطفى الكاظمي يفوز في “قرعة اليانصيب” العراقية!

حميد الكفائي _ كاتب وأكاديمي عراقي

أخيرا انسحب المكلف بتشكيل الحكومة العراقية عدنان الزرفي من تكليفه بتشكيل الحكومة وقدم اعتذارا لرئيس الجمهورية قال فيه إنه غير قادر على المضي بمَهَمّة التكليف في الظروف الحالية “لأسباب داخلية وخارجية”! وإنه سوف يستعد لخوض الانتخابات المقبلة “لاستكمال المشروع الوطني وتطوير أسسه الاقتصادية لإعادة إعمار العراق أسوة بدول العالم المتقدمة”.

ولكن ما الذي دفع الزرفي، الذي عُرِف بالجرأة والإقدام وبدا متمسكا بالتكليف بقوة لأكثر من ثلاثة أسابيع، إلى الانسحاب فجأة وهو يمتلك العدد المطلوب من النواب لتمرير حكومته، ويتمتع بشعبية واسعة في عموم العراق وعلاقات وطيدة مع قوى سياسية عراقية عديدة؟.

جاء انسحاب الزرفي بعد أن أصدرت ثماني مليشيات تدعمها إيران بيانا هددت فيه رئيس الجمهورية وقالت إنها “لن تسمح بتمرير هذا العميل” وإن تمرير حكومته “سوف يهدد السلم الأهلي” في العراق! وهو تهديد صريح بإشعال حرب أهلية إن وصل الزرفي إلى السلطة.

كما وصفت الزرفي، الذي كان لعشر سنين محافظا للنجف، بأنه “مرشح الاستخبارات الأمريكية”! وليس معلوما كيف توصلت المليشيات إلى هذه الاستنتاج، إن لم تكن تتعمد الإساءة للزرفي، فرئيس الجمهورية هو من كلّف الرزفي بتشكيل الحكومة بعد أن قدم 88 نائبا طلبا له بذلك، تبعهم على الأقل سبعون آخرون بإعلان تأييدهم له.

المعروف أن هذه المليشيات وباقي الجماعات المسلحة في العراق لا تتحرك دون أمر من الحرس الثوري الإيراني لأنها مرتبطة به، وقد اعترفت في بيانها، أنها نفذت هجمات على القواعد العسكرية العراقية التي تضم جنودا أمريكيين، وهددت بالمزيد من الهجمات في المستقبل.

إن هذا البيان وبيانات أخرى صدرت عن هذه المليشيات المنفلتة تهدد فيها سياسيين آخرين، هو دليل صارخ، لمن احتاج إلى الدليل، بأن إيران تتدخل عسكريا في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وفي شؤون العراق تحديدا وأن ما يسمى بـ”العملية الديمقراطية” في العراق أصبحت مزحة، لأن من لا تريده إيران ومليشياتها لا يستطيع أن يتولى السلطة حتى وإن فاز في الانتخابات، وقد حصل هذا عام 2010 أيضا عندما أبعد الفائز إياد علاوي، وحل محله نوري المالكي.

ويذهب كثيرون إلى أن سبب انسحاب الزرفي هو تراجع مؤيديه عن دعمهم له بعد زيارة قائد فيلق القدس الإيراني، إسماعيل قاآني، إلى بغداد والتي تبعها تزايد تهديدات الجماعات المسلحة للزرفي ومؤيديه.

لكن الزرفي لم يفشل في مسعاه في الحقيقة، إذ تمكن خلال فترة التكليف التي استمرت 3 أسابيع، من التعريف بشخصيته وبرنامجه السياسي وهو التأسيس لدولة عراقية عصرية مستقلة تماما وتجريد المليشيات المسلحة من سلاحها وإرغامها على حل نفسها أو الاصطدام بقوة الدولة التي ستهزمها دون شك.

هذا المسعى وحده جعل من الزرفي بطلا في نظر ملايين العراقيين التوّاقين إلى إقامة دولة قوية ومستقلة.

لقد أحسن الزرفي التصرف بسحب ترشيحه، ليس خوفا من المليشيات أو امتثالا لأمرها، فالمليشيات تمر حاليا بأضعف مراحلها وأن إرادة الشعب العراقي سوف تسود في النهاية، ولكن لأن فترة الحكومة المؤقتة قصيرة ولن يستطيع أن يحقق فيها نجاحا يذكر في ظل أزمتين خانقتين، اقتصادية وصحية.

خليفة الزرفي في التكليف هو مصطفى الكاظمي، رئيس جهاز المخابرات بالوكالة، والذي عيّنه قريبُه رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي في هذا المنصب عام 2016 دون استحصال موافقة البرلمان، كما يقتضي القانون.

والكاظمي شخص غامض ولا أحد يعرف آراءه السياسية أو خططه لمستقبل الدولة، فلم يظهر في وسائل الإعلام، ولم يكن سياسيا ولا اقتصاديا ولا إداريا أو أكاديميا، ولا أحد يعرف سبب (إجماع) القوى السياسية العراقية، خصوصا أتباع إيران، على ترشيحه سوى أنهم شعروا بأنه ضعيف سياسيا وإداريا وأنه لن يخرج عن طاعتهم، وأنهم سيكونون في مأمن من الملاحقة القانونية في عهده، ومن الغضب الشعبي العارم من فسادهم وجرائمهم، وأن هذا الغضب، وإن هدأ بسبب جائحة كورونا، لكنه لا شك عائد في أول فرصة سانحة.

لقد كان الكاظمي حتى يوم تكليفه مسؤولا لجهاز أمني مهم، والشعب يتهم الحكومة وقواها الأمنية والمليشيات المدعومة من الخارج بقتل 700 متظاهر وجرح 25 الفا وخطف عشرات آخرين خلال الاحتجاجات التي عمّت مدن الوسط والجنوب نهاية العام الماضي، أو على الأقل أنها لم تتمكن من حماية المتظاهرين إن كان القتلة من خارج أجهزة الدولة.

في (حفل) التكليف، الذي جرى خلافا للمعتاد في التكليفات السابقة، حضر ممثلون عن معظم القوى السياسية العراقية، وبرز منهم قائد مليشيا بدر، هادي العامري، الذي حرص على الظهور إلى جانب الكاظمي، في رسالة إلى العراقيين والعالم، مفادُها أن الكاظمي هو مرشح الجماعات المسلحة وإيران، التي أسقطت المرشحيْن السابقين، وإن أي مرشح لا يمكنه الوصول إلى السلطة في العراق إن لم يوافق عليه وكلاء إيران.

الغريب أن ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة، جنين بلاسخارت، حضرت هذا (الحفل) البهيج! وهذا ما لم تفعله سابقا، لأنه شأن عراقي داخلي ولا دخل للأمم المتحدة فيه.

والطريف أن أتباع إيران كانوا قد شنوا حملة شعواء ضد الكاظمي عندما طُرح كمرشح لرئاسة الوزراء سابقا، واتهموه بأنه كان وراء مقتل قائد فيلق القدس الإيراني السابق، قاسم سليماني، وقائد مليشيا كتائب حزب الله، أبو مهدي المهندس، اللذين قتلا في غارة أمريكية بطائرة مسيرة قرب مطار بغداد نهاية العام الماضي.

لكن القوى الموالية لإيران غيَّرت رأيها على ما يبدو بعد أن وجدت نفسها في مواجهة عدنان الزرفي الذي هددها علنا وتعهد بعدم السماح لأي مجموعة مسلحة أن تشارك في الانتخابات المقبلة، ما يعني أن وجودها السياسي، الذي يعزز وجودها العسكري ويضفي عليه شرعيةً ما، سوف ينتهي، لذلك لجأت إلى الكاظمي باعتباره محسوبا على الطرف الأمريكي وأن الولايات المتحدة سوف ترحب به.

هناك سوء فهم في العراق للموقف الأمريكي أو الغربي بشكل عام، إذ إن هناك تصورا بأن الولايات المتحدة تسعى جاهدة لأن يتولى السلطة في العراق أحد أصدقائها المخلصين. الحقيقة أن الولايات المتحدة لا تكترث لهذا الأمر وقد تعاملت سابقا مع الجعفري والمالكي والعبادي وعبد المهدي ولم يكونوا موالين لها، بل إن عبد المهدي سمح بهيمنة إيران ومليشياتها على العراق وقاد البلد إلى التشتت والانحدار بسبب ضعفه وتبعيته.

وسبب عدم الاكتراث الأمريكي هو أن الولايات المتحدة دولة عظمى وأن أي قائد حاذق سيحتاج إلى التعاون معها إن أراد أن ينجح ويحقق إنجازات سياسية واقتصادية. المليشيات لا تهمها مصلحة العراق، لأنها جزء من الدولة الأيديولوجية الإيرانية لذلك تتصرف وفقا لأوامر قادتها، وهؤلاء اتخذوا من أقوى دولة في العالم عدوا لهم، لكنهم لا يريدون إقحام إيران في حرب خاسرة مع الولايات المتحدة، فيورطوا العراق في هذه الحرب عبر دفع جماعات (عراقية) لضرب القواعد العراقية التي تستضيف قوات أمريكية، وهذا الأمر لم يعد خافيا على أحد.

هل يتمكن شخص قليل الخبرة والكفاءة ولا عهد له بالسياسة وصراعاتها من حل مشاكل العراق المعقدة في فترة تعصف بالبلاد أزمات سياسية وصحية واقتصادية وأمنية خانقة؟ لا احد يتوقع تغييرا حقيقيا في عهد الكاظمي، خصوصا وأن القوى الفاسدة التي أوصلت العراق إلى المأزق الحالي هي التي نصبته. أول تأييد علني يحصل عليه الكاظمي جاء من رئيس إقليم كردستان الذي يحرص على ضمان بقاء المكاسب التي حصل عليها خلال السنوات السبع عشرة الماضية، خصوصا حصة الإقليم من الموزانة البالغة 17%، والتي تفوق نسبة سكان الإقليم إلى سكان العراق (13%)، وغض الطرف عن تصدير النفط من الإقليم ومناطق أخرى خارجه دون تسليم عائداتها للحكومة الاتحادية. حماس رئيس الإقليم للكاظمي دليل على تقديمه تطميناتٍ لعائلة البرزاني بأنه لن يمس أيا من مكاسبها.

كما أن تحمس المليشيات للكاظمي وظهور قائد مليشيا بدر إلى جانبه أثناء التكليف دليل آخرعلى أنه لم يأتِ بمهمة وطنية، بل لتعزيز سطوتها على الدولة أو على الأقل الحفاظ على مواقعها الحالية وعدم محاسبتها على الجرائم المتهمة بارتكابها والتي راح ضحيتها مئات الشباب، فتيانا وفتيات، بين قتلى وجرحى ومختطفين. لم يتطرق الكاظمي في كلمته المقتضبة المتلكِئة المليئة بالأخطاء، والدالة على ضعف ثقافته وتعليمه، إلى محاسبة قتلة المتظاهرين، بينما كانت هذه القضية من أولويات المكلّفيْن السابقيْن، علاوي والزرفي، وهذا يفسر دعم إيران ومليشياتها له. لكن هذه القضية لن تختفي بسهولة لأن العراقيين يريدون أن يعرفوا من هو المسؤول عن قتل المتظاهرين ولماذا حصل ذلك.

كثيرون يتساءلون عن إنجازات الكاظمي في إدارة جهاز المخابرات لأربع سنوات كي يستحق أن يتسلم أعلى منصب في الدولة؟ هل تمكن من إيقاف تهريب العملة العراقية إلى الخارج؟ هل أمسك بسراق المال العام؟ هل كشف عن قتلة المتظاهرين ومختطفيهم المدعومين من الخارج؟ هل اتخذ إجراءً بخصوص نشاطات المليشيات التي تدعمها إيران؟ وهل حقق في ارتباطها بدولة أجنبية علما أنها رسميا مرتبطة بمؤسسة أمنية عراقية؟ هل فك ألغاز أعمال القتل والخطف التي تجري في العراق؟ هل أمسك بكبار الفاسدين وأوقف هدر المال العام وتهريبه إلى الخارج؟ هل حقق في نشاطات ممثل حزب الله اللبناني محمد كوثراني في العراق؟ الذي عرضت الولايات المتحدة جائزة عشرة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تقود إلى القبض عليه؟

إن مجيء شخص كالكاظمي إلى السلطة هو دليل صارخ على فشل النظام السياسي العراقي في أن يوصِل سياسيا كفوءا ومنتخبا إلى السلطة، وأن يطوّر آليات فاعلة للعمل السياسي تعمل على وضع برامج سياسية واقتصادية وخدمية تدعم استقرار الدولة وتنعش اقتصادها، وأن يلبي مطالب الشعب بإقامة دولة عصرية قوية تحترم مواطنيها.

كان تكليف الزرفي فرصة نادرة للعراق للسير في طريق بناء الدولة العصرية المستقرة، ولكن هلع إيران وأتباعها من توجهاته الوطنية والتهديد بإشعال حرب أهلية قد عطل هذا المسعى مؤقتا. لكن مشروع الدولة الديمقراطية العصرية المتصالحة مع شعبها والمتفاعلة مع العالم، باقٍ ويتمدد، وسوف يتواصل بعد تجاوز أزمة جائحة كورونا التي أوقفت الاحتجاجات. لقد تمكن الزرفي من تعريف المجتمع العراقي بمواقفه وأفكاره والتأسيس لمشروع وطني حقيقي يحظى بتأييد ملايين العراقيين، وعليه أن يستعد للانتخابات المقبلة عبر وضع برامج سياسية واقتصادية مدروسة ومحسوبة تهدف إلى تطوير البلد وتوطيد علاقاته مع دول العالم المهمة. من المهم ألا يشارك الزرفي في حكومة الكاظمي، فالأهم من ذلك هو العمل على وضع الأسس الصحيحة للمشروع الوطني، وأولها تأسيس حزب وطني عابر للطوائف والمناطق والأديان، كي يتمكن الناخبون من التصويت له. إنها فرصة تأريخية يجب استثمارها لتخليص العراق من مهزلة “قرعة اليانصيب” السياسية السائدة منذ عام 2003.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى