مقالات

من السندباد الى سنَدٍ باد)

لأي معقلٍ عدتَ يا رجلُ؟(من السندباد الى سنَدٍ باد) – منقذ داغر

تغزلتُ بالبصرةِ ومعقَلِها في أكثر من عشرين مقالاً نشرتها في صحيفة (الزمان) وستصدر قريباً في كتاب. ورغم ألمي على فراق أخي الذي جعلني أعود للبصرة بعد أن فارقتها ردحاً من الزمن،الا ان جزءاً مني كان مبتهجاً لعودتي للحبيب الأولِ. لذا يممت وجهي نحو مرتع الصِبا والشباب في المعقل حالما انتهيت من مراسيم العزاء،ويا ليتني لم أذهب! فأذا كان نزار قباني قد جعل نجاة الصغيرة ورغم قساوة الفراق تغني(ما أحلى الرجوع اليه)،فأن زيارتي للمعقل هذه المرة أجبرتني أن أصرخ قائلاً لنفسي (ما أقسى الرجوع اليه)!كنتُ أتوقع أن أرى حبيبتي قد شاخت وذبلت ملامحها،لكني لم اتوقع أن أراها مغتصبة،كئيبة،ممزقة الثياب،معفرة التراب، ليس فيها سوى الخراب ومسحةً من جمالٍ كأنه سراب. حينذاك شعرتُ بما أحسهُ أبي تمام حين قال ( ما حسرتي أن كدتُ أقضي انما حسراتُ نفسي أنني لم أفعلِ).أنطلق بنا للسندباد،قلتُ لمرافقي، ففيها أروعُ وأجمل الجنان.. فيها الماء والخضراء وغيدُ البصرةِ الحِسان.تلعثم محدثي، ولمست في صوته نبرةً من الحزن المشوب بالقلق وكأنه يريد تهيئتي لصدمةٍ توقعها. قال لي ان جزيرة السندباد ما عادت كما تعرفها،قلت.. لكنها السندباد فاتنة العباد وأميرة الجزر والبلاد! أنطلق لنراها وسأروي لك لماذا أسماها الانكليز جزيرة أم الفحم بعد ان كانت جزيرة رشاد وقت العثمانيين وجزيرة أم الحلفه قبلهم. سأروي لك قصة بناءها نهاية ستينات القرن الماضي،وجسر (هيل) الخشبي الذي كان الطريق الاوحد لها قبل اغتياله من قبل أعداء الجمال ليبنوا مكانه جسر خالد. سأريك الصلة بين مطار وفندق شط العرب،والكازينو التي تقابل السندباد حيث(الرمبة) التي يتم انزال الزوارق والسيارات البرمائية الى شط العرب في الستينات. سأروي لك قصة بناء الفندق وكازينو الالعاب فيه حيث كان يمتلئ برواده من الخليج العربي في عطلة نهاية الاسبوع. سأريك أين كانت تقف يخت الملكة عالية قبالة الجزيرة،وقرية العرسان التي شيدت في بداية السبعينات والتي كان عرسان العراق من كل المحافظات يرومون قضاء شهر العسل فيها حين لم تكن سوى البصرة مشتى للعراقيين ولدول الخليج العربي.حديقة الاندلسأنطلقت سيارتنا الى السندباد وأنا أنظر هنا وهناك حيث شريط الذكريات المليئ بالاماكن والأسماء والأحداث يتدافع في ذهني. هنا حديقة الاندلس، هنا أعدادية المعقل للبنات،هنا رصيف نمرة 4? هنا الحديقة المؤدية لنادي البورت كلب حيث كنا نلعب(طوبه)،هاهو شط المعقل،وهنا كانت الطائرات المائية تهبط وتحط رحالها مع ركابها الاغنياء والمهمين.وهنا المطار وفندق شط العرب ذي المئة وأحد جناحاً وغرفة ،والذي لا مثيل له الا توأمه في مومباي بالهند.هل نقف هنا،سألني مرافقي؟ قلت لا،سنقف في طريق العودة،خذني للسندباد فلم اعد أطيق الشوق والبعاد! فدلفنا الى جسر خالد المؤدي للجزيرة عبر طريق خلفي مليئ بالتراب والحفر تتناثر على جانبيه بيوت مبنية حديثاً لكن ليس فيها من الحداثة شيء! قف بي هنا..قلت له.أريد ان ألتقط بعض الصور لهذا المنظر الرائع من فوق الجسر حيث يلتقي نهر الكرمة بشط العرب في عناقٍ أمتزج فيه الجمال بالحزن. جمال يضاهي أجمل ما رأيت في بلدان الدنيا،لكنه مثل جمال أطفال العراق الذين تسربلوا بالأسمال لتكون ثيابهم وهم يدوسون على الذهب بأقدامهم.أنحدرت بنا السيارة الى جزيرة السندباد،وهنا كانت الصاعقة.أهي السندباد..قلت لمرافقي؟ قال نعم انها هي. أين هي الخضراء،أين هي النافورات،أين هو الفندق والكازينو؟أين قرية العرسان؟ لا خضراء..أجابني..أنما يبابٌ يسوره الماء.السندباد باتت مرتعاً للسكارى والمتعاطين. هاهي أطلال الفندق والكازينو اللذان مازال الطابوق البغدادي الجميل يغلف جدرانه المليئة بالكتابات القبيحة وسواد آثار البارود والغرف المهدمة. أنطلق بنا الى الجانب الشمالي من الجزيرة،قلت له،فلم أعد أُطق ما أراه يارجل. دعني أرى جزيرة العرسان وما كان يحيطها من ماءٍ وجنان، لأرى نافورتي الجميلة التي لي فيها مئات الذكريات والصور. خذني الى الكازينو المجاور لها حيث الماء والجمال واوفى البشر. مطَ شفتيه وضحك في سره وقاد السيارة الى هناك حيث لا جمال ولا شيء سوى القَفَر. أين هي النافورة؟ بل اين هي الصورة؟ أنها أسطورة..هذا ما أجابني به محدثي. أن ما ترويه لي نسج من الخيال يا سيدي. ما تقوله نراه في الصور والافلام ولا يمكنني كشاب ثلاثيني أن أتصور أنه كان هنا في ما يسمى جزيرة السندباد! أجبتهُ لا تثريب عليك ياولدي انما هي كأرض عاد..التي لم يخلق مثلها في البلاد..فماتت ..وبادت.. وصارت مجرد قصةٍ لقومٍ لم يرقبوا الله في شعبهم وأرضهم وتاريخهم،وفضلوا الموت على الحياة ،وأستحبوا الفرقة و الشتات،وأوكلوا أمورهم الى سرّاقٍ بغاة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى