مقالات

هنا المعقل..هنا البصرة (10)

هنا المعقل..هنا البصرة (10) – منقذ داغر

جذور الكرم البصريلطالما عُرف البصريون بكرمهم. وتحتفظ ذاكرتي بكثير من مشاهد الكرم البصري غير المحدود. لعل واحد من اهم تلك الذكريات استضافة البيوت البصرية المحيطة بمحطة قطار المعقل للمسافرين الذين فاتهم القطار ذلك اليوم.كما كانت مشاهد عدم تقاضي اصحاب المحلات لاثمان بعض البضائع(كالبهارات وسواها مما تشتهر به البصرة) من الغرباء والزوار مألوفة تماماً. ولعل اول من سنَّ سنة جمع التبرعات لاقامة المشاريع العامة هم البصريون الذين جمعوا اكثر من 40000 روبية لبناء مدارس خاصة . كما جمعوا مبالغ اكبرمن ذلك لبناء مستشفى مود،فما هو السر وراء الكرم البصري ياترى؟وما علاقة ذلك ببناء المعقل الذي اتحدث عنه منذ ثلاث حلقات؟عوامل الكرمباعتقادي،هناك ثلاث عوامل ساهمت في هذا الكرم.أولها كثرة الهجرات البدوية ,والريفية للبصرة التي تقع على تخوم الصحراء،ومعروف ان البدو وحتى الفلاحين يفخرون بكرمهم. الثاني يرتبط بوفرة الموارد تاريخيا في البصرة كونها ميناء تجاري مهم وغني فضلا عن انها كانت مركز التمور الاول في العالم.فالبصرة تتمتع بتنوع كبير في مصادر النشاط الاقتصادي مما يجعلها الاقل بطالة والاكثر غنى. لذا لم نسمع او نقرأ في التاريخ الحديث تعرض البصرة لمجاعات او قحط كالذي مرت به كثير من المدن العراقية. كما لم تشهد البصرة اي هجرة منها الى محافظات اخرى الا بعد بدء الحرب العراقية الايرانية1980? اذ كانت وما زالت مركزا لجذب المهاجرين وليس لطردهم. هذا يدل على وفرة المعاش من جهة وعلى طيبة البصريين وتسامحهم.وفي استطلاع لرأي العراقيين في كل المحافظات عام 2019 أظهر البصريون اقل معدل من الزينوفوبيا(الخوف من المهاجرين) مقارنة بكل محافظات العراق. أما العامل الثالث، المؤثر في كرم البصريين ،وهو ما يهمني هنا فهو البذخ في الانفاق على مشروع اعمار البصرة وانشاء ميناءها في المعقل. فالمتابع للتقارير البريطانية التي كتبت تعليقا على انشاء (ماركيل) وتطوير البصرة يلمس لوما شديدا من الحكومة البريطانية لوزارة المستعمرات وللمفوض السامي على الاسراف في النفقات في وقت كانت تعاني فيه بريطانيا من كلف الحرب العالمية الاولى.ولتبرير نفقاتها على انشاء الميناء وبخاصة كلفة بناية مقر الموانئ التي كانت تحفة معمارية عالمية،قالت وزارة المستعمرات في تقريرها للحكومة(ان هذه النفقات لن تكون هدية من الحكومة البريطانية للعراقيين بل عليهم ان يدفعوا مبلغ 72 مليار روبية-تعادل 538000 باون-بدفعات سنوية)!ويعلق احد المهندسين في العصر الحديث على ذلك بالقول ان البريطانيين في العراق كانوا يدركون ان البصرة هي داينمو الاقتصاد العراقي ولذلك ارادوا من خلال اظهار اهتمامهم بالمدينة تبرير احتلالهم ووجودهم من جهة وأظهار عظمة وكبرياء الامبراطورية البريطانية من جهة اخرى وذلك من خلال الابنية الفخمة والكبيرة.تطوير عمرانيويستدل المهندس البريطاني على هذا الشعور للبريطانيين الذين ارادوا للبصرة ان تكون مقرا دائما لهم باول خريطة تطوير عمراني للبصرة اصدروها عام 1918 وسموا شوارعها بنفس اسماء شوارعهم اللندنية المشهورة بضمن ذلك ساحة البيكاديلي وشارع اوكسفورد وكينت..الخ. ويستطرد المهندس قائلا انه لحسن الحظ لم تتوفر الاموال الكافية لانجاز المخطط لانه كان سيكون مكلفا جدا!لقد تضمن بناء (ماركيل) كثير من المرافق والمفاهيم العمرانية(الباذخة) التي لم تكن مألوفة للعراقيين آنذاك. فمساحات بيوت الموظفين كانت هائلة مقارنة ببيوت البصرة القديمة. كما ضمت المدينة الجديدة مراكز للثقافة والفن والترفيه لم تكن معروفة. فقد تم تضمين المعقل مسارح ومسابح عامة ومكتبات ومنتديات ولوندري ودورات مياه عامة فضلا عن المدارس والمستشفى ودور العبادة.كما تم تخصيص مساحات خضراء واسعة وكثيرة.ولاول مرة يجري هذا الاهتمام بتوفير بيئة صحية آمنة تتمثل بالمراحيض العامة التي زاد عددها على 83 اثناء ورشة بناء المعقل. كما جرى بناء شبكة مجاري لم تعرفها البصرة من قبل زودت بها كل مباني(ماركيل). هذا فضلا عن شبكتي مياه حديثتين احداها للشرب والاخرى للسقي. ان بذخ العمران الحديث مقرونا بكرم البداوة والريف، و بوفرة الموارد من التجارة والنخيل وارتياد البحر ومهنه المختلفة،طبعت على مايبدو شخصية البصري بطابعها الكريم،والمنفتح والنبيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى