slideتقارير وتحقيقاتحوار حر

عاصم مكية لـ”الاولى نيوز” الشر والخير ليسا أكثر من قوالب سلوكية بزغت منذ بزوغ الوعي الانساني، ولا تتعدى كونها اختراعات بشرية بإمتياز..!

الاولى نيوز / حوار حر

 

*اعرفك قارءا شغوفا ودارسا أكاديميا للفلسفة ومتابعا لتطوراتها، وعليه أسألك: ما الذي دفعك لدراستها على المستوى الاكاديمي؟ ولماذا تثير اهتمامك وتستحوذ عليك لهذه الدرجة؟

 

. هذا الشغف يتعلق بقدرة الفلسفة على تمكين الإنسان من ان يكون احكاما تمتاز بالعمق والمسؤولية، وتمنحه القابلية على التفريق قدر الامكان بين ما هو ذاتي وبين ما هو موضوعي، اضافة الى خلق رغبة عارمة للشك والتساؤل..

كانت دراستي للفلسفة على المستوى الاكاديمي خيارا ثانيا بعد رغبتي بدراسة اللغة الانكليزية لكن التوزيع المركزي رشح لي وقتها اختيارا ثانيا هو الفلسفة، وهكذا درستها وكانت تلك الفترة التي قضيتها في كلية الاداب جامعة بغداد، والتي كنت منصتا فيها لطبيعة هذه الافكار الغريبة والعميقة والمثيرة للدهشة.. خصوصا لتلك الفترة العظيمة من بدايتها عند الإغريق

لم اكن حينذاك مهتما بالدراسة لظروف خاصة احاطتني، لكن بعد خروجي من العراق واستقراري في الدنمارك تنامى في داخلي الشغف والفضول للتعرف على طبيعة هذا العالم، سواء على مستوى التفكير الفلسفي او على المستوى العلمي. بإختصار ان الذي يدفعني لقراءة ومتابعة الفلسفة هو ذلك الفضول الذي يمدني بالاستمتاع بعملية الفهم.

 

*ما هي الفلسفة حسب تعريف اليوم؟ اهي “ام العلوم” كما كان الفلاسفة الأوائل يسمونها، ام هي “علم العقل” ام المنطق ام اي شيء؟

 

.من الصعب جدا أن نأتي بتعريف جامع مانع للفلسفة، انما هناك عدة تعريفات قد يلتقي البعض منها وقد يختلف في بعض الشيء مع الآخر. فعلى سبيل المثال يرى ديكارت: انها “العلم بالمبادئ العامة”، ويندرج تحت هذا التعريف كل ما يتعلق بالاصول كالميتافيزيقا، والطبيعة، والانسان.. ويتفق هنا مع ما ذهب اليه الكندي مثلا من ان الفلسفة هي: “علم الاشياء بحقائقها الكلية”.
اما عمانويل كانط فكانت الفلسفة تعني عنده “علم القوانين التي تنكشف للفكر عندما ينقد نشاطه و يعيد النظر في ذاته”،
فتكون بذلك الفلسفة هي المعرفة العقليّة الناشئة من المعاني المدركة بالعقل.
اما فرانسس بيكون فيقول عنها بانها “المعرفة الناشئة عن العقل” وهي اشارة واضحة لطابعها التجريدي والمتعلق بالافكار.

والعم سقراط يرى انها “البحث العقلي عن الاشياء والمؤدي الى الخير”. وهنا يلتقي تلميذه افلاطون معه في تعريفه للفلسفة من حيث انها البحث عن حقيقة الاشياء للتعرف على نظامها الجميل وصولا الى مبدعها الاول.. والى أبيقور الذي ينظر للفلسفة كنشاط علمي وعملي لتحقيق السعادة.
وفي النهاية نستخلص ان نشأة الفلسلفة هي محاولة تأملية الغرض منها توفير إجابات عقلية لإشكاليات كمثل التي تتعلق باصول المعرفة والميتافيزيقا والأخلاق والجمال وغيرها..

 

 

*ما هي الموضوعات التي تستحوذ على انتباه الفلاسفة اليوم من خلال متابعاتك؟

 

.أعظم الإنجازات الفلسفية المعاصرة تتعلق بالتأكيد على حقيقة ان هذا الوجود نسبي ومتغير، وان للحقيقة اكثر من وجه واحد وبذلك تم الانفلات من تلك القيم المفارقة التي كانت تتبوء مركزية العقل حتى بزوغ عصر التأويل بإمتياز.

 

*يرى كثيرون بان التقدم المتنامي في مجال العلوم التجريبية استحوذ على معظم الموضوعات التي كان للفلسفة دورا في بحثها، وعليه انتفت الحاجة الى الفلسفة التي أمست بدورها محض تراث انساني ليس له دورا في تقدم العالم الحديث. تعقيبك.

 

.كانت الفلسفة فيما مضى هي أم العلوم قبل أن تتطور المناهج العلمية ويتم الانفصال عنها. وفي حقيقة الامر يكمن الفرق الجوهري بين العلم والفلسفة في ان الاول له القدرة على التجربة والإختبار وهذا ما يعطيه ميزة التراكم والاكتشاف المستمر، ناهيك عن أجوبته الصارمة والواضحة والمتميزة.. ومن هنا تجد الفجوة اصبحت كبيرة جدا بين ما آل إليه العلم وبين ما آلت إليه الفلسفة.. فالمشاكل التي تتعرض اليها الفلسفة منذ عهدها الاول الى الان تكاد تكون متشابهة مع فروق طفيفة في منهجية تناولها

نستطيع بعد ذلك أن نبوح بأن العلم اصبح يجيب عن اشكالات عديدة كانت الفلسفة تتناولها بطريقة نظرية تاملية.. وحتى على المستوى الاخلاقي استطاع التقدم التكنولوجي أن يعكس قيما أخلاقية حديثة تتوائم مع هذه السرعة التطورية التي يقودها العلم.. ولم تعد المراجع الميتافيزيقة لنشاة الاخلاق لها نفس الدور الذي ساد العصور ما قبل العلمية بل تراجعت اهميتها بصورة كبيرة، ونستطيع ان نشير هنا الى ان التكيف الأهم للفلسفة مع العلم هو ظهور تلك المدارس الفلسفية التي تدعم المناهج التجريبية كطريقة في البحث العلمي. وفي النهاية نستطيع القول ان أهم ما تبقى للفلسفة من وجهة نظر معاصرة هو ان تمدنا بالقدرة على استبدال ما هو قديم بالي بحديث يتوائم مع احتياجاتنا المعاصرة.

 

 

*من وجهة نظر فلسفية حديثة، ما الذي يتحكم بالسلوك الانساني اليوم من الناحية الأخلاقية والقيمية، وما هو الدور الحقيقي للدين في ذلك الشأن؟

 

.موضوعة السلوك ومحدداتها إشكالية لطالما تناولها الفكر الإنساني بكثير من الجدل حول العوامل الأساسية التي توجه تصرفات الناس وسلوكياتهم. واكثر النظريات الحديثة قبولا في هذا العصر هي تلك النظريات التي اعتمدت النتائج العلمية المبهرة في علم البايولوجيا الجزيئي والتي كشفت عن معلومات مهمة لطبيعة الجينات الوراثية وتاثيرها الكبير في صياغة قابلية أولية داخلية تتفاعل مع عوامل بيئية خارجية تشكل الجوهر الاساس الذي تنطوي عليه جميع السلوكيات.. اي بمعنى آخر لا يخلو من سخرية: ما نحن إلا نتاج مؤامرة بايولوجية سيسيولوجية.

اما الشق الثاني من السؤال والمتعلق بالدين والاخلاق فإن الفلسفة الحديثة قد لعبت دورا هاما على مستوى التنظير الاخلاقي ونقد القيم الثابتة التي نادت بها الاديان، باعتبار ان مرجعية الاديان تعود الى عالم غيبي مفارق لا يهتم باحتياجات وظروف الانسان المتغيرة عبر الزمان والمكان. واذا ما تتبعنا الفكر الحديث والمعاصر فإننا سنجد ان هناك رغبة واضحة في هدم هذه القيم، ودعوة صريحة للتمرد عليها وعدم الإنصياع لقواعدها البعيدة عن ارض الواقع.

إذ ان مجتمعاتنا الان على سبيل المثال تعاني من إشكالية أخلاقية كبيرة بسبب إصرار الفكر الديني على استدعاء أنماطا قديمة من الأخلاق والقيم، وجعلها المحددات الأساسية للسلوك. ويتم ذلك عبر نشرها بطرق استبدادية تخلو من اي منطق او مساءلة!
وان عملية التغيير يجب أن تحدث نقلة نوعية في هذا المجال من خلال إدراكنا لحقيقة واضحة مفادها اننا نعاني من خلط مزمن بين الدين والأخلاق، فمعظم التراث الديني مهتم بتعليم الناس الحلال والحرام بطرق مذهبية خالية من اي تعاطف او قبول للآخر..
اما مجال الاخلاق فيعنى بتعليم الناس الصح والخطأ، وكيفية نشر قيم التسامح والعيش المشترك والسلام بينهم.

 

*إذا كان الانسان، وكل شيء اخر، جزءا من حركة ديناميكية فيزيائية للطبيعة كما أكد ديكارت وسواه.. وكان الوجود والعدم سيان، فأي قيمة تبقى للوجود؟

 

.الوجود موجود، والعدم غير موجود، وإذا ما نظرنا الى هذه الحقيقة من زاوية واقعية غير مشوبة بأية احلام وردية، فعلينا ان ندرك تماما وهنا أستدعي فكرة نيتشة التي يدعو الناس فيها الى تعلم فن عيش المأساة أن التعرض الى حادث الوجود هو بحد ذاته مأساة.
ان السؤال عن غاية الوجود قد لا يكون صحيحا من الاساس، على اعتبار أنه يفترض سلفا ان للوجود غاية.. ومن ثم يحق السؤال عن ماهيتها.
في تصوري الخاص ان صنع معنى او غاية يجب ان يكون ملقا على عاتقنا كذوات تحقق فرديتها من خلال رفضها الانصياع لاي قمع أو استبداد على جميع المستويات.. ومن ثم النظر الى الإستمتاع بالحياة رغم قسوتها على إنه هدف نبيل نحققه الان، هنا على هذه الارض، وليس في اي مكان.

 

*ماذا عن عقوبة الأشرار وثواب الأخيار؟ ماذا عن القتلة والمجرمين؟ وماذا عن الأنبياء والمرسلين والخيرين؟

 

.الشر والخير إختراع انساني بإمتياز. هي ليست أكثر من قوالب سلوكية بزغت منذ بزوغ الوعي الانساني.. انا اجد تعارضا شديدا بين ان تصمم الحياة على الكفاح والصراع من اجل البقاء وبين ان يتم وضع منظومة عقابية تصل درجة قسوتها الى مستويات لا تخطر على بال اعتى العقول الشريرة.
برأي المتواضع انا لا استطيع تخيل نفسي باني ساكون مرتاحا على المستوى الأخلاقي اذا علمت ان الجحيم الابدي سيكون عقابا عادلا لاي شرير مهما بلغ شره من حدود قصوى اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار الظروف التي مر بها.. سواءا على مستوى الوراثة او على مستوى البيئة.
قد لا يوافق كثيرون على هذا الكلام لأنه لا يمنحهم الراحة النفسية المتاتية من تحقيق العدالة، او ان غياب الثواب والعقاب من وجهة نظرهم سيكون دافعا لكثير من الناس لكي يتخلوا عن عمل الخير! ولكن، الواقع والحقيقة ليس لهما علاقة بما نرغب ونرتاح او نتمنى، بل لهما علاقة بشبكة من العلاقات التي أنتجتها قوانين الكون، والتي ما انفك الانسان في محاولته جاهدا للتعرف على طبيعة نشأتها.

 

*ما هو منبع الغرور الإنساني وتعاليه عن بقية الكائنات لأن يخادع ذاته بايجاد سبب أكبر مما يقدمه الواقع لوجوده؟! وهل ونضجت البشرية اليوم لدرجة أنها تستطيع استيعاب “اللا هدف” المخيف من وجودنا؟

 

.منبع الغرور الانساني متوارث منذ ازمان قديمة.. والسبب الرئيسي في ترسيخ هذا الشعور لديه ينبع من الإرث الديني المتراكم الذي يحمل في طياته قصة الخلق المروية بواسطة الأديان الإبراهيمية الثلاث، والتي تشير بوضوح الى ان الانسان قد خلقه الله ليكون خليفته على الارض.. ومن ثم اعطاءه الحق الشرعي لتسيدها من جميع النواحي! وان الكون ونظمه الدقيق ما هو الا وسيلة لهذا الوجود المركزي الذي يحتله الانسان!.

المشكلة في هذا التصور أنه متوافق مع غريزتنا الانانية بدرجة كبيرة.. ورغم كون العلم قد قطع اشواطا كبيرة في التوصل لحقائق منافية لهذا التصور (خصوصا على مستوى الحياة بواسطة نظرية التطور بالانتخاب الطبيعي التي قد رفعت من مستويات وعينا الى درجة جعلتنا نفهم الى حد كبير موقعنا الحقيقي في هذا الوجود) الا ان معظم الناس متمسكين بتلك النظرة القديمة، وبنفس درجة الغرور المقدس الذي يحمل طمغة السماء، فيقاومون بشراسة كل اكتشاف يحط من مركزيتهم في هذا الكون!.

 

*قلت لي سابقا بانك رفضت عروضا من بعض الصحف لكتابتك فيها، لماذا وانت لك عظيم القدرة على تقديم المنفعة الجيدة جدا للقراء والمهتمين؟

 

.السبب في ذلك يعود الى احساسي بالحرية.. فأنا اكتب على صفحة الفيسبوك خاصتي ما اشاء، واخشى ان الكتابة في الصحف لها محددات معينة لا يمكن تجاوزها، وهذا بالنسبة لي مانع كبير.

 

*الى موضوع يطغي عليه النكد..
على مستوى الواقع العراقي، ما الذي ينقصنا للوصول بمهمة التنوير اللازمة للنهوض بالواقع العقلي السائد؟

 

.ليس في العراق وحده انما في المنطقة العربية كلها هناك فجوة كبيرة بين ما هو سائد من ابنية فكرية واخلاقية في مجتمعاتنا وبين قيم الحداثة والعصرنة المنتشرة في جميع انحاء العالم.

إن المجتمعات التي يتداول فيها هذا الموروث من الانصياع المتفاقم للغيب بدون ادنى واعز للرغبة في السؤال او حتى الدهشة قد أحال المنطقة الى جزء من تراث زائل ظل قبيحه عالقا في الشفاه التي تناقلته عبر مئات السنين…

عملية التنوير المنشودة يجب أن تستهدف خلق مطبات نقدية تخلخل القواعد التي يتجمهر حولها الناس. التنوير عملية هدم تدريجي للقديم ومحاولة لإرساء قيم جديدة يحتل فيها العقل والمنطق والأخلاق مكانة مهمة تتناسب ومتطلبات الحياة المعاصرة، ولا يتم ذلك الا بتنحية الدين عن الشأن العام وفسح المجال لبدء مشروع مدني لإدارة شؤون البلاد.

 

*اية احلام شخصية تنتظر التحقق؟

 

.عندما يغادر الانسان نصف عمره الاول تتلاشى جميع الاحلام.. انما لي امنية ارجو ان تتحق، وهي ان أعيش بسلام.

 

*رسالة لمن سيقرأ حوارنا (كلمة أخيرة)

 

.أن تكون الحرية اعظم فضيلة ينشدها الانسان..

 

حوار/ تمام عدنان حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى