مقالات

جريمة ملجأ العامرية..بقايا من سراب ذاكرة

الكاتب/سمير داود حنوش

في مثل هذه الأيام وتحديداً فجر الثالث عشر من فبراير 1991 كانت ماكنة الموت الأمريكي تحصد أكثر من 400 روحاً بريئة كان جلّهم ينوي الإختباء من جحيم القصف الذي كان يُخيّم على بغداد بأحداث عاصفة الصحراء التي إنطلقت طائراتها تجوب سماء بغداد لتحرق البشر والحجر، لكن من لم يمت بالقصف مات إنصهاراً في ملجأ العامرية.

كثيرة هي القصص التي سمعناها من أشخاص عايشوا تلك الجريمة، وحكايات تناهت إلى مسامعنا عن أصوات أرواح تجوب المكان بصور شتى، فهناك من سمع أصوات أطفال وضحكاتهم وهم يلعبون، وآخر يؤكد أن همسات نسوة وهنّ يتبادلن أحاديث المساء قبل النوم وأحاديث أخرى عن أرواح كانت تلقي التحية على من يمر بجانب الملجأ، ذلك المكان الذي حط فيه ملك الموت ليأخذ معه قوافل من أرواح العراقيين.

في تلك الليلة الباردة والمظلمة حيث إعتاد أهالي المنطقة على قضاء لياليهم الطويلة في ذلك المكان المخصص أو هكذا كان يظن للإحتماء من الغارات الجوية، كان هذا المكان ملاذاً آمناً للكثير من العوائل التي كانت تذهب إليه بعد العصر لتوفر مقومات الحياة في هذا الملجأ من مولدات كهرباء وماء وتجمع آمن، حيث كانت منازلهم تخلو من تلك الأساسيات التي قصفها الأعداء.كان الملجأ عبارة عن كانتونات بأقسام يتوزع عليها الرجال والنساء والأطفال للمبيت وقضاء الليالي والعودة صباحاً إلى منازلهم.لم تكن ساعات ليلة “13-14” من فبراير 1991 سوى أجراس الموت التي دقت ساعته حين إستهدف الطيران الأمريكي الملجأ فجراً بصاروخين أحدث الصاروخ الأول ثقباً من خلال نظام التهوية بعد أن حصلت أمريكا على خرائط الملجأ من الشركة الفنلندية المنفذة للملجأ الذي كان مصمماً للوقاية من الضربات النووية ويصعب إختراقه إلا بفتح فجوة في نقطة ضعيفة إستدل عليها من خلال الخريطة للجهة المنفذة.فيما نَفَذ الصاروخ الثاني من خلال الفتحة الأولى مما أحدث إرتفاعاً في درجات الحرارة سبب إنصهاراً للجدران وذوبان من كان موجوداً وإلتصاقه بتلك الجدران، تحولت تلك الأجساد الطرية إلى كتل سوداء متفحمة إلتصق أكثرها بحيطان الملجأ.

لم يكد يتبين الخيط الأبيض من الأسود وتشرق شمس ذلك اليوم الأسود حتى كان الجميع يركض مجنوناً بلا وعي أو إدراك في شوارع المنطقة القريبة من الملجأ للبحث عن عوائلهم التي تأخر قدومها إلى المنازل، كان هناك الأب الذي يبحث عن زوجته وأطفاله، وذلك الذي يبحث عن والديه وإخوته، وتلك التي تجوب الشوارع على أمل أن تعثر على بناتها الغائبات عن حضنها في تلك الليلة.كان السياج الذي يحيط بالملجأ عظيماً بالجموع لا يختلف عن يوم الحشر، فالكل كانوا سكارى وما هم بسكارى، الجميع كان يصرخ، ينتحب، وإنهار البعض الآخر وعيونهم ترنوا إلى باب الملجأ عسى أن يظهر أحد من الناجين.بعد سويعات حضرت إلى المكان سيارات الإطفاء على أمل أن تساعد في التخفيف من وهج الإنصهار، ولكن بخطأ أو غباء من المسؤول عن الإطفاء الذي أمر برش مداخل الملجأ بخراطيم المياه مما تسبب هذا الفعل بإنهاء حياة البعض ممن تبقى له رمق في الحياة بسبب غرق المكان حيث من لم يمت إنصهاراً مات غرقاً وتحول الموقع إلى مقبرة جماعية.

في عصر ذلك اليوم الحزين كانت شوارع المنطقة وأحيائها عبارة عن سُرادق للعزاء التي إختفى عنها المعزين حيث لم يبق سوى الذي فقد زوجته وأطفاله وتلك التي فقدت بناتها، لكن الحزن الأكبر والمصيبة التي أبكت الجميع هو ذلك الشاب الذي فقد والديه وإخوته جميعاً وجلس وحيداً في البيت يسأل نفسه كيف سيعتاد الوحدة في هذا الزمن.

كان التبرير الأمريكي لقصف ملجأ العامرية بعذر أقبح من الذنب عن معلومات إستخبارية حصلوا عليها بزيارة قام بها الرئيس صدام حسين وأحد نجليه إلى الملجأ للإختباء، لكن هل كان ذلك مبرراً للقتل وحصد تلك الأرواح البريئة.أكثر من 400 روح بريئة لم تبق منهم سوى الذكريات وحفرة أحدثها الصاروخ في السقف وآثار حديد التسليح وحيطان سوداء لونتها آثار جثث محترقة ومتفحمة وشموع توقد وذكريات سوداء أثقلها تراب السنين.

جريمة لازالت تثبت أن دم هذا الشعب أرخص من شربة ماء حين يستفز المرء ذلك الصمت الحكومي وعدم مطالبته بحقوق هؤلاء الضحايا من أعداء الأمس وأصدقاء اليوم، ربما هي العمالة أو الخوف أو الخنوع لا ندري، لكن المؤكد أن جريمة ملجأ العامرية ستبقى وصمة عار في جبين من يتباهى بالديمقراطية.

لو كتب التاريخ عن وصف هذه الجريمة لوصفها في مصاف جرائم هيروشيما ونكازاكي في الإبادة الجماعية.

رحلت عن الذاكرة المثقوبة الكثير من ذكريات ذلك اليوم الأسود، لكن آثارها ظلت تُذكّر العراقيين بجرائم إبادتهم التي لازالت متواصلة إلى زمنهم الحاضر.

خارج النص: صندوق الذكريات الذي أخرج هذه السطور هو من يوميات أحداث تلك الجريمة التي كان الكاتب أحد الشهود على أحداثها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى