مقالات

حانوت المدرسة وصناعة الثقة

هنا المعقل .. هنا البصرة (ثالث عشر)حانوت المدرسة وصناعة الثقة – منقذ داغر

مازلت في خضم نزيف ذكرياتي عن دور المدارس التي عرفتها في البصرة في صناعة الشخصية البصرية الواثقة والمدنية. قلت ان هناك مثلث من مصانع الثقة والمدنية في المعقل يضم التصميم الحضري للمعقل، ودور مدارسها،ودور الفن والترفيه. أكمل اليوم ما بدأته قبل حلقتين بخصوص دور مدارس الستينات في المعقل والبصرة في صياغة شخصيتنا،من خلال التركيز على مفهوم التربية بشكل متوازي مع مفهوم التعليم. ولتحقيق فلسفة التربية آنذاك تم اعتماد عددا من البرامج والانشطة اللاصفية التي تزيد من ثقة الطالب في نفسه،وتحبب له التعليم،وتساعد على اندماج الطلبة وصهر خلفياتهم المتباينة في بوتقة مدنية واحدة. ذكرت ان الفن والثقافة مثلتا نشاطا اساسيا في كل مدارسنا ولم تكن حصص الفنية او الشعر والخطابة مجرد مكملات منهجية يمكن الاستغناء عنها.أما النشاط اللاصفي الآخر الذي عنيت به مدارسنا في حقبة الستينات فهو النشاط الكشفي.لقد كانت الكشافة(للمراحل المبتدئة،والجوالة للمراحل المتقدمة) جزءاً اساسيا من النشاط الرياضي المدرسي. تأسست الحركة الكشفية الدولية على يد اللورد البريطاني(باول) عام 1907 وكان العراق من بين اول الدول في العالم التي أدخل لها الانكليز هذا النشاط عام 1918. لقد كان ارتدائنا لملابس الكشافة او الجوالة في المدرسة شرفا وزهواً لا يدانيه أي شرف أو زهو.أذكر جيدا كيف كانت معلمة الرياضة التي ترتدي معنا ملابس الكشافة-التي توزعها التربية مجانا- تصحبنا لجولات معظمها في حديقة المدرسة.فنتعلم استخدام بعض الادوات ونصب الخيم والزراعة وسواها من الانشطة التي تزيد من اعتمادنا على انفسنا وثقتنا بها. كما تزيد من التعارف والتواد والمحبة مع بقية الكشافة من الصفوف او حتى المدارس الاخرى. وحين كبرنا ودخلنا المتوسطة والاعدادية تدرجنا في رتب الجوالة وتنوعت الانشطة والمهارات اليدوية التي تعلمناها ومارسناها. بل اني لا ازال أذكر أن أول يوم لي بتُّ فيه خارج بيتي كان في أحدى معسكرات الجوالة في منطقة الاثل الرائعة.لقد كانت الكشافة والجوالة(التي لا علم لي عن مصيرها الان في مدارسنا) مدارس داخل مدارسنا،تعلمنا فنون حب الطبيعة والحفاظ عليها والتعايش معها. كما كانت تعلمنا مبادئ التعاون مع الآخر والتحاور معه. أنها كانت مصادر مضافة للثقة الفردية والجماعية التي أسست لبنية اجتماعية صحية وصلبة.نشاط كشفيأود هنا ايضا ان احدثكم عن تجربة قريبة من هذا النشاط(الكشفي) اعتدنا على ممارستها كل صيف وأندثرت الان على مايبدو مثلما اندثرت كثير من الاشياء الجميلة. أنها تجربة الأندية الصيفية في المدارس.ففي حر الصيف اللاهب في البصرة كنا نستمتع بالنادي المدرسي الصيفي في شهر تموز. كان اول نادي صيفي ارتدته عام 1971 في مدرستي المتوسطة(متوسطة الرشيد للبنين في المعقل). ورغم بساطة تلك المدرسة التي تقع في الجينكم (الحي الصيني) بين السكك الحديد ونادي الميناء، الا ان مدرسيها آنذاك وفروا لنا بيئة مليئة بالانشطة المفيدة والمسلية والتي تزيد من خبراتنا الاجتماعية وثقتنا بأنفسنا من خلال النادي الصيفي. لقد كان النادي الصيفي(المجاني) عبارة عن مركز ثقافي وأجتماعي وتعليمي. ففضلاً عن اننا كنا نأخذ فيه بعض الدروس اليومية التي تهيئنا للسنة اللاحقة،فقد كنا نتعلم فيه الشعر والخطابة والرياضة وفي مقدمتها السباحة،على يد مدرسينا وخبراء آخرين في مجالاتهم. لقد كان مدرس الرياضة يصحبنا الى مسبح نادي الميناء المجاور لنا ليعلمنا السباحة مستعينا بسباحي نادي الميناء المحترفين! لكم ان تتصوروا المتعة التي كنا نشعر بها ونحن نسبح ونلهو سوية في مسبح الميناء. وتصوروا ان كل ذلك كان يجري دون ان ندفع وأهلنا فلسا واحدا! لذلك كان يمكن للفقير والغني ان يلهوا معا ويمارسا نفس الانشطة التي تزيد من احساسهم بالمساواة وتحسن من علاقتهم وتزيد ثقتهم في أنفسهم. مع ذلك فأن التجربة التي لا أنساها في النادي الصيفي هي تجربة الحانوت.لقد جمعنا الاستاذ فاضل(مدير النادي الصيفي) في أول يوم لنا في النادي ليقول لنا:لن اضع احد مسؤولاً عن الحانوت هذه السنة! كيف ذلك؟تساءلنا جميعاً!! قال:سأترك الكيك والبيبسي والبسكويت على منضدة الحانوت واترك جنبها صندوق صغير تضعون فيه ثمن ما تشترونه دون ان يراقبكم أحد. وفي نهاية كل يوم سأعلمكم اذا كانت هناك فلوس ناقصة من(الدخل).أنا اعتمد على تربيتكم والثقة بكم، قال لنا. وفعلاً، وطوال الثلاثين يوم (مدة النادي الصيفي) لم يكتشف الاستاذ فاضل اي نقص (سوى خمسة فلوس لمرة واحدة) في دخل الحانوت! أو ربما أكتشف ذلك أكثر من مرة لكنه لم يخبرنا كي لا تهتز ثقتنا بأنفسنا وزملائنا الآخرين. هل عرفتم عن اي مصانع للثقة أتكلم؟!أخيرا أريد ان اتطرق للرياضة كنشاط لا صفي اساسي ثالث سواء للذكور أو الاناث. لقد كانت الرياضة مثل الفنية والموسيقى نشاطا اساسياً وليس هامشياً او تكميلياً. لا بل ان اساتذة الرياضة لم يكونوا اكثر المدرسين شعبيةً، فقط لحبنا للرياضة بل لأنهم كانوا أبطالا رياضيين في أختصاصاتهم. لذلك كنا نفخر بأنهم يدرسونا. ولم يكن درس الرياضة مخصصا لكرة القدم فحسب بل لشتى انواع الرياضات.بل ربما كانت رياضات الساحة والميدان تتفوق في أهميتها على كرة القدم بخاصة وان هناك بطولة للساحة والميدان لتربية البصرة كان الجميع يشارك بها اما في ملعب الادارة المحلية أو في ملعب الميناء. كانت تلك البطولة عرسا رياضيا تحضره معظم العوائل البصرية. وكنا نحفظ اسماء كل ابطال الساحة والميدان في مدارسنا وكثير منهم صاروا ابطالا للعراق وآسيا فيما بعد.فريق مدرسيأما كرة القدم فكنا نحضر كل مباريات فريقنا المدرسي وكانت هناك بطولات منتظمة للمدارس الابتدائية والثانوية. كان مدرس الرياضة يتمتع بسلطة واسعة تمكنه من أخراج من يريد من الدرس ليحضر التدريب او السباق. معظم رياضيي البصرة المشهورين بدأوا معنا من ساحات المدارس التي يندر ان تخلو مدرسةً منها. كانت مدارسنا تحتوي على مسارح ومكتبات وغرف موسيقى وساحات كرة قدم وسلة وطائرة. بأختصار كانت مدارسنا مصانع للثقة وبناء العلاقات الصحية مع الاخر. لقد كانت التربية تسير كتفا بكتف مع التعليم،لذلك نجح التعليم في صياغة الشخصية المدنية وبات أحد ركائز البنية الاجتماعية التحتية للبصرة ومعقلها. في الحلقة القادمة سأبدأ بسرد ذكرياتي عن الفن والترفيه في المعقل ودورهما الاجتماعي المهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى