مقالات

مقتدى الصدر

مشرق عباس

لا يتوقف مقتدى الصدر عن إثارة الجدل في العراق، وفي الأسابيع الأخيرة كان خصومه يتداولون ما يعتبرونها واحدة من «تقلباته العديدة» عندما قرر منع إشراك النواب السابقين من كتلته في الانتخابات ومن ثم استثنى عدداً منهم، ليعود الصدر بعد أيام نافياً الاستثناء، ومن ثم يفاجئ الخصوم وربما الأنصار بإعلان عدم دعمه لكتلة «سائرون» التي تحالف فيها أنصاره مع علمانيين وشيوعيين وقوميين.

بل إن هذا التحالف الذي أصبح محل رفض الإسلاميين كان في الأساس بمثابة تحول هائل، نسبه الخصوم خصوصاً من الإسلاميين إلى «نظرية التقلب» التي باتت التهمة الأبرز التي تواجه الصدر، فيما اعتبرها آخرون خطوة جريئة سبق إليها الصدر الآخرين ولحقوا به مرغمين، في حين نال بعض العلمانيين من أقرانهم الذين وجدوا في الصدر حليفاً واتهموهم ببيع «اليوتوبيا العلمانية العراقية» إلى «الإسلام السياسي».

الواقع أن الانتقادات التي وجهت إلى الصدر كان مصدرها في الأساس العلمانيون انفسهم قبل أن يتلقفها الإسلاميون، فالعلمانيون انتقدوه بشدة عندما كانت الميليشيات تستخدم اسمه لترويع العراقيين في سنوات الحرب الأهلية، وهم من سخروا من انضمامه عام 2010 لدعم حكومة المالكي الثانية في اللحظات الأخيرة على رغم تعهداته بعدم الانضمام إليها، وبعضهم يرفض حتى الآن تصديق المتغيرات المثيرة التي أحدثها الصدر في تياره وفي توجهاته السياسية ونمط تحالفاته وموقفه من الدولة.

لكن نظرة فاحصة على مسيرة الصدر السياسية تكشف أن انتقالاته التي بدأت بحل «جيش المهدي» عام 2008 ومن ثم رحيله عن العراق، وتماسكه رغم انشقاق تياره إلى فصائل مسلحة متعددة باتت اليوم رئيسية في المشهد السياسي، لا تحسب في خانة «التقلبات» كما يراد الترويج لها، فالطرف الحكومي الذي مثله حينذاك «حزب الدعوة» والذي مازال زعيمه نوري المالكي يستخدم مصطلح «صولة الفرسان» للترويج لنجاحه في حل «جيش المهدي»، هو نفسه من استثمر هذا الحل لدعم العناصر الأكثر تطرفاً في تيار الصدر للانشقاق عنه وتشكيل فصائل مسلحة جديدة كانت وما زالت تعمل تحت ظل الدولة ورعايتها!

الغريب أن توجهات الصدر السلمية ومبادراته التصالحية، بل وانضمامه إلى العلمانيين في ساحات التظاهر للمطالبة بالإصلاح، ولحمايتهم من التهام القوى المسلحة، قوبلت باستنكار من خصومه، وكأنما لا يراد للصدر، وهو حفيد الأسرة الدينية العريقة الممتدة في التاريخ العراقي، إلا أن يكون «زعيم ميليشيا»، وهو الاستنكار الذي قوبل به عندما رفض إرسال الشباب العراقيين للقتال في سورية، وعندما طالب بعلاقات عراقية خارجية متوازنة وغير خاضعة إلى نظام المحاور.

إذا كان نجاح الصدر في الانتقال بتيار شعبي هائل يمثل الشباب والطبقات الشعبية الفقيرة في مدن الجنوب العراقي التي كانت وما زالت مسحوقة ومهملة ومهمشة، من ثقافة العنف إلى الدفاع عن مدنية الدولة، تقلباً، فهو من أفضل التقلبات التي خدمت فرص العراق في البقاء موحداً ومتماسكاً بعد أهوال السنوات الماضية، وإذا كان من باب «التقلب» أن يرفض الصدر تملق الآلاف من الساعين إلى إعادة استخدام اسمه لترويع الناس، وتقريب شيوعيين ومدنيين مسالمين ليكونوا في صلب قراره السياسي، فإنه تقلب حميد يستحق الإشادة لا التنكيل.

ما يمكن قوله بشأن الصدر، الذي كانت لديه رؤية ثاقبة استباقية عام 2013 لما حصل بعد هذا التاريخ، وتوقعات سجّلَها عبر وسائل الإعلام لمسار الأحداث وتطورات الاحتجاجات في مناطق غرب العراق إذا لم يتم احتواؤها سلمياً، ومبادرات حاول من خلالها تدارك الانهيار الذي كاد يودي بخريطة العراق، هو أن الرجل رفض الانسياق إلى إغراء التطرف.. رفضه مراراً وتكراراً حتى في لحظة اقتحام تياره برفقة المدنيين المنطقة الخضراء، وهو الاقتحام الذي اعتُبر من جهةٍ إساءةً إلى مؤسسات الدولة، ومن جهة أخرى عُد رسالة بليغة حول حقيقة أوزان القوى في العراق وإمكاناتها فيما لو تمادت محاولات اختبارها، كمحاولات تصفية نفوذ الصدر أو إبعاده مجدداً عن التأثير في مسارات الأحداث.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى