مقالات

التأقلم والأواني المستطرقة

معد فياض

لي صديقة في بغداد عادت ابنتها من أوروبا التي تتلقى دراستها في إحدى جامعاتها، لأغراض الزيارة، سألتها: “كيف وضع ابنتك مع حرارة صيف بغداد؟”، فردت بكلمة واحدة: “تأقلمت”. “تأقلمت”.. مفردة واحدة فتحت أمامي مساحة واسعة من الأفكار والمفردات، ولا اعرف لماذا احالتني الى الاواني المستطرقة التي تعرفنا عليها للمرة الاولى في الدراسة المتوسطة، بل وشاهدناها باعيننا في مختبر المدرسة مع التعريف بها الذي كان يردده مدرس العلوم:”الأواني المستطرقة هي مجموعة من الأواني المختلفة الاشكال والاحجام، المتصلة مع بعضها والتي تحتوي على سائل متجانس، كالماء مثلا، عندما يستقر ذلك السائل، فانه يتوازن في كل الأواني عند نفس المستوى أو المنسوب بغض النظر عن شكل وحجم الآنية”. قلت لها يا سيدتي نحن شعب متأقلم اصلا واساسا.. رضعنا التأقلم مع حليب امهاتنا، وأول لقاح تلقيناه هو لقاح التأقلم، درسونا منذ ان كان عمرنا 4 سنوات معنى التأقلم وفسروه لنا قبل ان ندرس اللغة او الدين، بل عرفنا فيما بعد بان الدين، اي دين كان، هو تأقلم، وانه يشجع ويدفع باتجاه ان نتأقلم مع الرب والانبياء والاولياء والعائلة والعشيرة والمجتمع.. وان نتأقلم مع التاريخ بالرغم من اكاذيب احداثه المفضوحة، وان نسمي الغزوات فتوحات، والهزائم انتصارات، والقتل جهاد، والسرقة غنائم، وسبي نساء الاخرين جواري، والموت من اجل احتلال اراضي الغير شهادة واستشهاد. ذات يوم شكوت لوالدي عن مشكلة حدثت مع اصدقائي خارج البيت فازاح نظارته الطبية وترك صحيفته ونصحني بلهجة هي اقرب للامر والتحذير والانذار من النصيحة وقال: “عليك ان تتأقلم مع الناس”..يحدث خطأ مع اخوك الاكبر او الاصغر سنا منك، فتشدد عليك امك ان تتأقلم.. الاحزاب السياسية، قومية كانت ام علمانية او دينية اول ما تلقنك اياه، نظريا او عمليا هو التأقلم وان تمجد النظام الداخلي ومنهاجها وتصرفاتها مهما كانت خاطئة ومستهجنة. ان نكون مقتنعين فهذا يعني اننا متأقلمين، وان نرضى بنصيبنا فهذا تأقلم. تتزوج الفتاة بالرغم عنها وتفشل بزواجها فيقول لها كل من حولها مواسين”هذه قسمتك ونصيبك” وعليها ان تتأقلم مع”قسمتها ونصيبها”.عليك ان تتأقلم مع فشلك في الحياة الذي تهيئه لك السلطات العليا، وان نجحت فسوف ينصبون الفخاخ في طريقك لتفشل ما لم تتأقلم مع منهجهم واحزابهم وافكارهم. حتى اني وضعت لافتة في واجهة غرفتي كتبت فيها” انا متأقلم.. إذن انا موجود”، بدلا من عبارة الفيلسوف ديكارت”أنا أفكر إذن انا موجود”. نحن شعب ولكثرة ما تعمقنا بالتأقلم اصبحنا مجموعة من الاواني المستطرقة فكريا، بل اكبر واضخم منظومة أواني مستطرقة عرفها التاريخ. الفكرة التي يصبها القائد السياسي او الرئيس او الحاكم او السيد او الشيخ او الملا أو القس برأس احدنا تنتقل لرؤوس الآخرين في نفس الوقت و”تتوازن في كل الرؤوس عند نفس المستوى أو المنسوب بغض النظر عن شكل وحجم الرأس أو الآنية”. نحن تأقلمنا الى درجة اننا آمنا بالفعل بان”القناعة كنز لا يفنى” ورضينا بـ “قسمتنا ونصيبنا” فقتلنا عن سبق اصرار وترصد كل طموحاتنا وفرحنا بكنز القناعة الوهمي..أن تكون طموحا فهذا الخروج عن الملة، وتمرد على الامة، وكفر والحاد وجحود بما كتبه الرب لك وعليك..فانت مبرمج والرمونت كونترول الذي يتحكم بحركاتك وامزجتك وتفكيرك بيد حاكمك وامامك وشيخك وعليك ان تحمده وتقدسه وتطيع ولي الامر..وولي الامر هو ليس الاب او الام بل من تتبعه حتى لو كان مخرفا او مجنونا او طاغية او مجرما. يقولون لنا ولاة الامر حاربوا، نحارب، استشهدوا، نستشهد، ابكو والطموا، نبكي ونلطم، اضحكوا، ها ها ها، فنضحك مثلما يريدون وكيفما يشاؤون، ها ها ها.. جوعوا فنجوع، انتخبوا فلان فنسارع ونتسابق لانتخابه، أليسوا هم ولاة امرنا وجعلونا نؤمن بان “خبزنا كفافنا”، وانهم تفضلوا علينا بطعامنا ورزقنا وهوائنا، وان مطالبنا الحياتية تبطر، ماذا تفعلون بالكهرباء، بالماء، اتريدون رفاهية؟ هل عاش اىنبياء والاولياء الصالحين برفاهية؟ صوموا حتى تشعرون بجوع الفقراء، تأقلموا مع حرارة الصيف (50 درجة مؤية) كي تعرفوا جهنم وتطيعوا الرب، تقشفوا بمأكلكم وملبسكم فالرفاهية هي خصلة من يحكمكم. نحن تأقلمنا اكثر واعمق من فكرة التأقلم ذاتها فرضينا بان يحكمنا المجرمون والفاسدون والمخربون وزعماء المافيات والعصابات من القتلة والجهلة وأن نعيش حياة الذل والعازة والحرمان دون ان نتمرد او نرفع رؤوسنا حتى للشكوى عند الخالق عليهم..لمن نشتكي؟ الرب للانتقام منهم ام ان نطلب منه ان ينصرهم علينا؟، وهو يرى ويسمع كل شيء، وهو من اختارهم ولاة امرنا وسيَدهم علينا فحاشى ان نكفر بنعمته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى