مقالات

ماهو الدرس الإجتماعي؟

هنا المعقل.. هنا البصرة (أحدى وعشرون – الأخيرة)

ماهو الدرس الإجتماعي؟ – منقذ داغر

بُني المعقل بهندسة بريطانية مدنية،وأيادي صينية وآسيوية، تزاوجت مع الإرث البصري العراقي فأنتجت مدينةً عقلها غربي وجسدها عراقي،وروحها مدنية. مدينة شوارعها عريضةٌ خضراء،وبيوتها واسعةٌ غنّاء.نهارها عمل وليلها أمل. يجتمع العمال فيها صباحاً فيغدون لدوائرهم على دراجاتهم الصفراء التي أقرضتهم اياها مديرياتهم ليسددوها باقساط مريحة،فترى الموج الاصفر نهاراً مختلطاً بالموج الازرق لشط العرب في لوحةٍ قل نظيرها.بُني المعقل ليكون مجتمعاً مدنياً يعزز الثقة بالنفس ويزيد من التفاعل بين كل العوائل بمختلف درجاتهم ودخولهم. في كل بيت وشارع وزاوية تجد مساحات خضراء يرتادها الجميع ويتفاعل فيها الشباب والكبار. البيوت واسعة(حتى تلك المخصصة للعمال من المستويات الوظيفية الدنيا)تتيح التمتع بالخصوصية التي يحرص عليها كل فرد بخاصة في مجتمعاتنا،لكنها في ذات الوقت تسمح باستقبال الضيوف والتفاعل الاجتماعي بين الجيران. بُنيت احياء المعقل لتساعد في تشكيل الاحساس والاعتزاز بالانتماء المحلي. طريقة البناء والمساحات والفضاءات المتاحة تسمح بتقديم خدمات بلدية واجتماعية على اعلى مستوى. لم تعرف المعقل-ويقيناً بقية مدن العراق وحواضره-هذا التشضي المريع في مساحات البناء بحيث تحولت الاحياء السكنية الى علب سردينية!! في دراسة أجريت في أميركا على الساكنين في مساحات صغيرة جداً، قرأتها مؤخراً، أثبت الباحثون الاجتماعيون ان هناك انعكاسات اجتماعية ونفسية كبيرة ناجمة عن العيش في مثل هذه المساكن. فالسكن في هذه البيوت المعلبة يؤدي حسب الدراسة الى ضعف الاحساس بالانتماء للمجتمع المحلي،ويزيد من حالات الغضب، والعدوانية، والانسحاب من الحياة الاجتماعية، والضغوط النفسية! فأذا كان هذا هو حال من يسكنون في مثل هذه البيوت في أمريكا حيث كل الخدمات موفرة لهم،فما بالك بمن يسكنون في مدننا حيث قلة الخدمات وتهالك البنى التحتية وانعدام المساحات الخضراء،وغيرها من مستلزمات العيش الكريم.طبعاً هذا لا يعني ان من يسكنون في مساحات أكبر لا تصيبهم هذه الامراض الاجتماعية لكن نسبتها بلا شك تكون اقل. اعلم ان الظروف الاقتصادية هي التي تضطر الناس للسكن في هذه المعلبات السكنية،لكن في دولة مثل العراق حيث الموارد تهدر على الحروب العبثية،والفساد،والمصاريف الامنية، يصبح التحجج بالظروف الاقتصادية كسبب لعدم بناء بيوت آدمية لائقة تبريراً عبثياً لا أستطيع هضمه.وناهيك عن التشويه البصري والعمراني والاغتيال المتعمد للمخططات العمرانية للمدن،فأن الأحياء المشوهة والعشوائية التي نجمت عن عمليات البناء المعلب تفتقر لكل ما من شأنه ان يزيد التفاعل الاجتماعي الايجابي وتغص بكل ما من شأنه ان يزيد من مسببات التفاعل الاجتماعي غير الصحي. لذا فان الافتقاد الى تخطيط عمراني صحيح لا يؤدي الى مشاكل هندسية عمرانية أو ضغوط خدمية على البنية التحتية، بل والأهم من ذلك يؤدي الى مشاكل اجتماعية تقلل من منسوب الثقة بين افراد المجتمع وتمنع تراكم رأس المال الاجتماعي.شخصية معقليةأما العامل الثاني الذي أدى الى خلق الشخصية المعقلية البصرية المنفتحة فهو التعليم التربوي.ففي الوقت الذي شكلت فيه الانشطة التربوية اللاصفية ودروس الفن والرياضة نسبة مهمة من اليوم الدراسي لطلاب الستينات والسبعينات،تقلصت هذه النسبة حتى باتت شبه معدومة بخاصة في المدارس الحكومية. وفي الوقت الذي كانت فيه المدارس الحكومية بوتقة للتفاعل الاجتماعي الصحي وغير التمييزي بين كل الطلبة بغض النظر عن إنتمائهم الطبقي صار التعليم في العراق أحد مسببات التمايز الطبقي الذي يزيد -بدل ان يقلل-مشاكل التفاعل الاجتماعي. وبعد ان كانت المدارس تسهم في خلق اجيال واثقة من نفسها ومنفتحة على مجتمعها وعلى ثقافة المواطنة،صارت المدارس مصدراً للتفاخر والتمايز الطبقي،وفي بعض الاحيان مصنعاً للتعصب والانغلاق. وفي ظل الارقام المخيفة المنشورة من قبل اليونسيف ووزارة التخطيط،فليس من المستغرب ان يتحول التعليم عندنا من عامل لبناء الشخصية المدنية المنفتحة والواثقة من نفسها وغيرها،الى عامل معيق للبناء الاجتماعي السليم. أفهم المشكلات الموضوعية والبنيوية التي واجهت التعليم في العراق بعد 1980 وأدت الى تدهور في هيكليته ومحتواه.فالظروف الاقتصادية التي نجمت عن الحروب اللانهائية التي خاضها ويخوضها العراق،مصحوبةً بالطفرة الديموغرافية الهائلة التي كانت تضيف بحدود المليون عراقي سنوياً على مدار العقود الثلاثة الاخيرة،فاقمت من مشاكل التعليم في العراق وضغطت على بناه التحتية وجعلته نهباً للتغيرات السياسية الكثيرة بعد ان غابت الستراتيجية الطويلة والواضحة للتعليم في العراق. أفهم كل ذلك،لكن ما أستغرب له هو هذا الاهمال والتدهور المستمر في التربية والتعليم وفقدان البوصلة التي توجهه على مدار السنوات العشرين الماضية حتى ان حصة التربية والتعليم في الموازنات الحكومية السنوية المتعاقبة كانت بين 2-4% من اجمالي الانفاق العام،على مدار سنين عديدة. لقد ادى هذين الاتجاهين المتناقضين(زيادة السكان،وتناقص التعليم) الى حدوث فجوة معرفية باتت تتسع وانعكست بشكل كارثي على العلاقات الاجتماعية وثقافة المجتمع العراقي.منظومة علاقاتأما العنصر الثالث في بناء منظومة العلاقات الاجتماعية السليمة في المعقل فهو الترفيه والثقافة. على مدى تاريخها الطويل عُرفت البصرة بحب الثقافة والفنون . ولست في هذه الحلقة الاخيرة من السلسلة في معرض تعداد الاسماء البصرية في هذين المجالين فهم اكثر من يُعدّوا وأشهر من ان يُحصروا. لكني حاولت الاشارة الى حقيقة ان الترفيه والفن والثقافة قد خُلطت مع الاسمنت الذي بُني به المعقل. فالنوادي الاجتماعية الراقية(البورت كلاب،الميناء،الارمن،السكك) كانت تحتضن كل شباب وعوائل المعقل بمختلف هواياتهم وميولهم واتجاهاتهم. فمن يحب الفن يجد ضالته،ومن يريد الرياضة بمختلف اشكالها يجدها حاضرة،ومن يشتاق للمسرح او السينما او الغناء يجدها في فعاليات مستمرة لا تنقطع على مدار الاسبوع.وأذا قررت العائلة ان تستمتع باجواء جميلة وعشاء شهي وصحبة رائعة فلديها اكثر من بديل متوفر. كشباب ،كنا نمارس الرياضة والفن والخطابة والمطاردات او المسابقات الشعرية،او الشطرنج،أو نذهب للسينما أو المسرح او نحضر الباند الغربي لعبد الحسن تعبان او التخت الشرقي لمجيد العلي أونلعب الدنبلة…الخ من الانشطة الرائعة التي كانت تشغل يومنا بكل ماهو شيق ومفيد ويزيد من ثقتنا بانفسنا وبالاخر الذي نختلف معه طائفياُ او عرقياً او دينياً او حتى طبقياً.كان الفن والثقافة والترفيه في المعقل البوتقة التي تصهر كل الاختلافات، والاناء الذي تحصل فيه كل التفاعلات بين ابناء المجتمع المحلي فتكون المخرجات الاجتماعية سليمة والعلاقات البينية كريمة.أخيراً،أود الاشارة الى انه رغم محاولاتي الكثيرة لضبط افكاري بضوابط الباحث العلمي المحايد وغير المنحاز،الا انه يجب الاعتراف ان النستالجيا(الحنين للماضي) كانت حاضرةً رغم كل محاولاتي لابعادها. وان ما قد يزيد هذه النستالجيا أثراً على كتابتي هو الاخفاق المريع الذي اصاب مجتمعنا حاليا وجعله نهبا لفقدان الثقة والقلق وقلة التفاعل والغضب والعدوانية وسواها من الآفات الاجتماعية التي باتت تنخر نسيجه المتماسك الذي عرفناه. لذا أرجو ان لا يُنظر الى ما كتبت بعدسة النقد العلمي المنهجي،كما اني ارجو ان لا يُقيم من منظور السرد التاريخي لاني في الاخير لست مؤرخا. وأدق ما يمكن ان اصف به ما كتبت على مدار احدى وعشرين حلقة،انه ذكريات معقلية بموشور(زجاجة التحليل الضوئي) اجتماعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى